تبدأ هنا رحلة سمكة الحفش التى تحتاج من 4 إلى 5 سنوات لتنضج تماماً
يعد الكافيار من أغلى الأطعمة في السوق إذ يبلغ سعر الكيلو من 1.500 إلى 15.000 دولار
قارب النهار أن ينتصف فى وقت ذروة الصيف، وشوارع منطقة المصفح الصناعية المقفرة فى أبوظبى لا تساعد التائه على إيجاد مُراده، وهى بالتأكيد لا تبدو كمسرح مناسب لقصتنا اليوم تقع مؤسسة «أكوا أوربس» فى منطقة منخفضة وسط مستودعات تعصف بها الرياح ومخازن متهالكة. و«أكوا أوربس» الإماراتية إحدى مؤسسات مزارع الكافيار الداخلية وأكثرها استخدامًا للتكنولوجيا فى هذا المجال.
وعلى الرغم من أنها تستحوذ على مساحة قدرها 60 ألف متر مربع تقريباً، إلا أنه من السهل أن يضل المرء طريقه إلى مقر هذه المؤسسة العملاقة، ولكن حالما تدخل أبوابها تشعر بالإثارة والحماسة. وقد أطلقت «أكوا أوربس» الشهر الماضى أول مجموعة من منتجاتها التجارية فى الأسواق تحت اسمى «ياسا YASA» و«رويال كافيار Toyal Caviar» وتعد هذه المؤسسة المتخصصة بتقديم أفضل وأفخر أنواع الكافيار محلية الصنع للشرق الأوسط ومن ثم للعالم «بحلول عام 2016 سنكون قد توسعنا بأفرعنا فى كل مكان، فرؤيتنا عالمية». هكذا يقول كمال مسعد، المدير العام للمؤسسة، والمسئول عن تنفيذ هذه المهمة الشاقة، ويتردد صدى كلماته فى أروقة المؤسسة الواسعة، التى تعد واحدة من شركات مجموعة «بن سالم القابضة ـBin Salem Holding» الخاصة. ولدى «أكوا أوربس» 30 موظفاً فقط يجوبون بانشغال ارجاء المؤسسة التى تتسع لـ50 حوضاً سباحة أولمبياً، وتخترق صيحاتهم صمت المبنى المطبق.
إلا أن موظفى المؤسسة المجتهدين، ومن بينهم فنيو المختبرات وموظفو الخدمات اللوجستية، ليسوا وحيدين هناك، فتحت مظهر «أكوا أوربس» الهادئ والرزين تقبع خلية مفعمة بالنشاط، حيث تسبح 300 ألف سمكة حفش فى تمتد على مرمى البصر مُعدة خصيصاً بأكثر الطرق تقدماً، وهذه الأسماك تعد المصدر الوحيد للكافيار.
إلا أن إعداد هذه المياه مكلف بالطبع، إذ يبلغ رأس مال المؤسسة 150 مليون دولار بحسب ما يقول المدير العام، والذى انضم لطاقم المؤسسة أواخر العام الماضي. «أكوا أوربس» هى شركة خاصة، ومعظم أسهمها ملك لمجموعة بن سالم القابضة، ولذا فما زال وضعها المالى فى طى الكتمان، ولكن مسعد يصف تكاليف المؤسسة الشهرية بأنها ضخمة، وبالتالى نفترض منطقياً أن أرباح المشروع المحتملة تغطى التكاليف وأكثر.
ويمكن جنى الكثير من الأرباح فى هذا القطاع بشكل عام، وتتباين الأسعار فيه بالاعتماد على المصدر وعلى نوع سمك الحفش ويعد الكافيار من أغلى الأطعمة فى السوق، إذ يبلغ سعر الكيلو من 1.500 إلى 15.000 دولار.
ولا يزال المدير العام جديداً على عالم الكافيار، ولكنه متمرس فى عالم المأكولات وفى إدارة المصانع، ويتكتم مسعد على أسعار الكافيار فى مؤسسته، ولكن «أكوا أوربس» تربى فقط أسماك الحفش السيبيرية الناضجة التى يبلغ وزن الواحدة منها 10 كيلوجرامات، وينتج هذا النوع من الأسماك كافيار «بايرى Baerii» والذى يبلغ ثمنه 5.400 دولار، ولذا فمن المتوقع ان المؤسسة ستحقق نجاحاً مالياً باهراً.
ولكن ليس من الممكن تحقيق النجاح بسهولة فى قطاع صناعة الكافيار، ولمشاهدة طرق تربية أسماك الحفش وزراعة الكافيار فى المعمل، فقد عبرنا الممر خافت الإضاءة الذى يفصل نصفى المزرعة المتطابقين، ويتكون كل من هذين النصفين من المفرخات وأماكن التربية انعطف مسعد يميناً إلى غرفة تحتوى على عينات صناعية، حيث تبدأ هناك رحلة سمكة الحفش التى تحتاج 4 سنوات ونصف السنة إلى 5 سنوات لتنضج تماماً.
مسعد، الذى تمتد خبرته على مدى 25 عاماً جاب فيها الفلبين وماليزيا وعُمان واليمن وأخيراً الإمارات، يصف أسماك الحفش السيبيرية بأنها أفضل الأنواع من حيث الجدوى الاقتصادية، ويوضح بأن أنواع الحفش الأخرى تحتاج 8 ـ 10 سنوات لتنمو، ومن هذه الأنواع أسماك «حفش ستيرليت Sterlet» و«الحفش الذهبى Ossetra» و«سيروغا Sevruga» و«بيلوغا Beluga» والذى يمكن ان تصل فترة نضوجه إلى 25 عاماً.
بعد ان غطس يديه فى سائل معقم، اتجه المدير العام إلى حوض كبير يصل ارتفاعه إلى مستوى الصدر، وأوضح مشيرا إلى حشد كبير من الأسماك الصغيرة التى يبلغ عمرها 5 أشهر والتى تبدو أشبه بديناصورات العصور القديمة: «لقد تم تفقيس هذه الأسماك هنا».
وتحتاج إناث هذه الأسماك إلى 5 سنوات تقريباً لتصل إلى سن البلوغ، وبعدها يتحول لون البيض من الأبيض إلى الرمادى ثم إلى الأسود قبل ان يتم استخلاصها وبيعها، لينتهى بها المطاف على الموائد الفاخرة فى انحاء الإمارات العربية المتحدة والتى يميل شعبها لكل ما هو مترف وباذخ.
ويقول دانى قطار، رئيس الطهاة فى فندق انتركونتينينتال فى أبوظبي: «الكافيار معروف جداً فى الإمارات العربية المتحدة بشكل عام وفى أبوظبى بشكل خاص، وهو يضفى على المدينة طابع الترف، وتقدمه الكثير من المطاعم والفنادق».
وتطمح «أكوا أوربس» إلى ترك انطباع قوى فى السوق، وقد بدأت أعمالها فى عام 2011 بمجرد وصول 50 طناً من أسماك الحفش السيبيرية التى تبلغ من العمر عامين من ألمانيا ويوجد الآن أسماك من الجيل الرابع فى مزارع المعمل، وهكذا فستستمر عملية الإنتاج على مدار العام، ما يمنح المؤسسة ميزة تنافسية فى قطاع يستفيد عادة من موسمى حصاد اثنين فقط كل عام.
وأثناء تفريخ البيض المُخصّب بشكل دوري، يحرص فريق مسعد على استمرار الإنتاج على مدار السنة، ويعلق المدير قائلاً: «هذه الميزة غير موجودة فى المنطقة، ولا يتوقع أى أحد وجودها فى هذه الأرجاء».
ويرحب الشيف قطار بفكرة افتتاح مزرعة الكافيار بالغة التطور فى البلاد، ويعلق قائلاً: «يمكن استيراد الكافيار الجيد والطازج مرتين فقط سنوياً من الخارج، ولكن مع افتتاح «أكوا أوربس» يمكننا الحصول على الكافيار فورا».
ويمتدح قطار حسن الاستقبال فى مؤسسة «أكوا أوربس» ونظافة المكان وجودة المنتجات العالية، والتى برأيه أصبحت تميز كافيار أبوظبى المستزرع محلياً عن غيره.
ورغم المديح الذى أغدقه بعضهم ممن اطلعوا على أسرار الإنتاج والتصنيع على المؤسسة، يحافظ مسعد على توقعات تجارية واقعية، فمازال كافيار «أكوا أوربس» فى المراحل الأولى للحصاد، ويتوقع المدير العام وطاقمه إنتاج كمية متواضعة يبلغ حجمها 1.500 كيلو جرام من الكافيار هذا العام سيتم بيعها لخطوط الطيران والمطاعم الفخمة فى الإمارات العربية المتحدة قبل التوسع فى المجال التجارية الكبرى فى البلاد فى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
فى عام 2014 وفيما تتزايد قدرة المؤسسة الإنتاجية، تطمح «أكوا أوربس» للتوسع فى بلدان مجلس التعاون الخليجى الأخرى والشرق الأوسط بشكل عام، حيث يتوقع زيادة إنتاجها وتوسيع نفوذها العام المقبل، ويقول المدير الأردنى الطموح: «فى عام 2015 سيتضاعف الإنتاج مجدداً، وبحلول 2016 سنكون قد وصلنا إلى أقصى إمكاناتنا الإنتاجية التى تبلغ 35 ألف كيلو كافيار و500 ألف كيلو من اللحم »وتبلغ نسبة الإنتاج العالمية من الكافيار ما يقارب 400 طن سنويا، ولذا يتوقع مسعد ان تنتج مؤسسته ما نسبته %10 من إنتاج العالم الكلي.
اتجهنا بعدها إلى مكان تربية الأسماك، والمحطة التالية بعد هذه بالنسبة إلى أسماك الحفش هى المطابخ، ويسلط مسعد الضوء على التقنية الحديثة المبتكرة التى استحدثتها مؤسسة ألمانية تدعى «يونايتد فورد تيكنولوجيز United Food Technologies»، مشيراً إلى ان هذه التقنية تسهم فى تسريع وتسهيل نمو الأسماك، ويعلق قائلاً: «تسرع هذه التقنية عملية الحصاد، إذ تعتمد على تسمين الأسماك وتزويدها بأفضل ظروف معيشية ممكنة»، ويشير إلى مجموعة من الأحواض التى يتم التحكم فيها بدقة متناهية ونظم مؤتمتة وأجهزة متطورة.
لكن نظام «أكوا أوربس» المبتكر لا يعمل على تسريع نضوج الأسماك فحسب، بل يخفف من الجهد المبذول خلال العملية أيضاً، ويشير مسعد إلى جهاز آلى لإطعام الأسماك معلق فوق منطقة التسمين، والتى تحتضن الأسماك الصغيرة من عمر السنتين ونصف السنة إلى 3 سنوات، ويؤكد مسعد أن هذه الآلات يمكن ان تعمل وحدها لمدة 5 أعوام متواصلة بأقل قدر من التدخل البشري.
فى منطقة التسمين يتم فصل الأسماك الإناث والذكور عن بعضها باستخدام تقنية الموجات فوق الصوتية، ويتم نقل الإناث التى تحمل الكافيار الأسود إلى «منطقة التطهير» حيث يمتنع عن إطعامها لمدة من 6 إلى 8 أسابيع لتقليل نسبة الدهون فيها، وأثناء ذلك يتم أخذ عينات لتحديد حجم البيض، أهى صغيرة أم متوسطة أم كبيرة، وكلما كان الكافيار أكبر، ازدادت قيمته التجارية، الا ان مسعد والذى بدأ ولعه بالكافيار يتنامى قبل ان ينضم لـ«أكوا أوربس» يقول: «إن الكافيار الكبير والصغير لهما المذاق نفسه، مضيفا ان الحجم يترك انطباعا مختلفا فحسب».
ويبدو ان الطريق ممهد أمام «أكوا أوربس» لتكتسح عالم الكافيار، ولكن شأنها شأن أى وافد جديد فى أى قطاع، تعترضها العديد من التحديات. وقد تكون هذه المزرعة أكبر مزارع الكافيار وأكثر تطورا تكنولوجيا، إلا أنها ليست الوحيدة فى العالم أو حتى فى الشرق الأوسط، فعلى حدود المملكة العربية السعودية تقبع «كافيار كورت Cariar Court» منشغلة فى العمل، إذ تنتج كافيار الحفش الذهبي.
ويؤكد المدير العام ان المنافسة الرئيسية له ولفريقه تأتى من المنتجات المستوردة من المزارع الأوروبية المخولة تصدير بضائعها حسب اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية. ولا يشكل الكافيار المستورد من إيران أو روسيا أى قلق، وقد ضبطت اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية حجم التجارة بأسماك الحفش منذ عام 1998 بسبب مخاوف من عمليات الحصاد غير المستدامة والتجارة غير القانونية، وهذه الاتفاقية تحظر على ايران وروسيا تصدير الكافيار، ولكن يمكن شراؤه من السوق السوداء. بغض النظر عن المنتجات المنافسة المستوردة، يبدو المدير العام جريئاً إذا يستعد لأخذ صورة له مع سمكة حفش مكتملة النمو، ويقول «لدينا مزايا تنافسية تفوق ما يتخيل منافسونا من حيث التكلفة وسعر البيع».
أما بالنسبة إلى المستهلكين، فسيحددون ما ان كان ذلك صحيحاً حالما يصل كافيار وأسماك «أكوا أوربس» إلى أطباق المطاعم ورفوف المحال التجارية. ولكن بوصفها مؤسسة حاصلة على شهادة «زيزو ISO» ومدرجة فى قائمة اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية لأنها تربى عدداً من الأسماك يفوق العدد الذى يتم ذحبه، يبدو ان مستقبلا مشرقا ينتظر هذه المؤسسة الريادية الإماراتية. فى نهاية جولتنا فى مزرعة الكافيار العملاقة، اتجه مسعد إلى مكتبه. قد يكون يوم العمل أشرف على الانتهاء فى أبوظبي، لكن هذه هى البداية فقط بالنسبة إلى «أكوا أوربس» فى رحلتها للهيمنة على عالم الكافيار.








