بقلم: محمد العريان
أعاقت الأسواق مجدداً، أواخر الشهر الماضي، أى محاولة لتفسير اضطراباتها قصيرة الأجل عبر النظر إلى الأنماط التاريخية، وخاصة تأثير البنوك المركزية.
وأولا، كانت هناك موجة بيع غير مبررة فى الأسواق الخطيرة استجابة للإشارة المطمئنة نسبياً من الاحتياطى الفيدرالي، أقوى بنك مركزى فى العالم، والمتعلقة بترك أسعار الفائدة على حالها فى اجتماع سبتمبر الماضي.
ثم من الغريب، أيضاً، أن ترتفع الأسواق بعد أسبوع، بعدما أدلت رئيس «الفيدرالي»، جانيت يلين، بتصريحات أكثر تشدداً.
ويبدو أن الأسواق هذه الأيام، أكثر تأثراً بمعنويات المستثمرين التى تتأرجح بين نقيضين، أحدهما التركيز على إشارات الفيدرالى بشأن الاقتصاد الأمريكى والاقتصادات العالمية. والآخر، المخاوف من التأثير المحتمل لتغير أسعار الفائدة على الدولار، والتدفقات المالية، والإقبال على المخاطر، والأسواق الناشئة الهشة هيكلياً.
وينتج عن هذا التأرجح تقلبات، ما يجعل الأسواق وصناع السياسة معرضين للتخبط الحقيقى والملموس.
وفى هذا السياق، تم تفسير قرار «الفيدرالي» بعدم رفع الفائدة فى اجتماعه على أنه تعبير عن القلق بشأن الآفاق الاقتصادية، وهذا تضمن رسالة كان لها تأثير قلل الشهية لتحمل المخاطر، ما أضعف حقيقة أن البنك «المركزي» أجل مجدداً أى قرار لتخفيف السياسة التحفيزية تدريجياً، وهذا ساهم فى تشكيل بيئة رحبت فيها الأسواق بالخطاب المتشدد قليلاً من «جانيت يلين»، الأسبوع الذى يليه.
ومع ذلك، قد يجد «الفيدرالي» نفسه فى مواجهة أسواق قلقة فجأة من آثار رفع الفائدة. وما سيشكل خطراً بشكل خاص هو تآكل التنافسية نتيجة قوة الدولار، وتراجع الاستثمار فى الأسهم بالدين، واحتمالية تسبب نقص السيولة واستراتيجيات الاستثمار القائمة على التقلبات فى تضخيم الاضطرابات.
وتوضح هذه المخاطر، الصعوبات التى يواجهها «الفيدرالي» فى الموازنة بين الحاجة المحلية لرفع الفائدة والاقتصاد العالمى غير المستعد لمثل هذه الخطوة. وهذا يعقد هدف البنك المركزى فى رفع الفائدة تدريجياً، فى الوقت الذى يواصل فيه الخروج المحسوب والحساس من «السياسات غير التقليدية» بما فى ذلك التيسير الكمي، الذى تم تطبيقه فى منتصف الأزمة المالية العالمية فى 2008، وانتهى فى أكتوبر الماضي. ولكن الفوائد من طول هذه السياسات قد تفوقها الأضرار الجانبية والعواقب غير المقصودة التى تنطوى عليها.
وسبب الحذر، يكمن فى أن هذه السياسات الاستثنائية جعلت الأسواق المالية تعتمد اعتماداً عميقاً على البنك المركزي، باعتباره قامع التقلبات ومعزز أسعار الأصول. ولن يكون مستحيلاً، ولكن ليس سهلاً الخروج من هذا النموذج السياسي، والأهم من ذلك هو طريقة الخروج التى تحقق تصالحاً منظماً بين العوامل التى تبدو متناقضة. وهذه الحقيقة لن تتحقق فى أفضل صورة إلا بتحسن كبير فى النشاط الاقتصادى خاصة خارج الولايات المتحدة، ما سيسمح بعودة أسعار الفائدة لطبيعتها تدريجياً وسط تحسن أداء الاقتصادات والشركات.
وإذا انتهى عصر الفائدة شديدة الانخفاض بواسطة النمو الاقتصادى المرتفع، فسوف تنتهى سنوات الارتفاع فى أسعار الأصول المالية وهو الارتفاع الذى نتج عن تحركات «الفيدرالي»، وهذا سيدفع الأسواق للعودة إلى الاعتماد الكبير والمستدام على الأسس الاقتصادية. وهذا التحول بدوره سيقلل إلى حد كبير المخاطر المخلة بالنظام من تقليص المديونية وضعف دور الوساطة من قبل السماسرة.
ولسوء الحظ، رغم بعض الابتكارات المثيرة، وتوافر كميات كبيرة من النقدية، لا يوجد كثير من العلامات تشير إلى حدوث تحسن كبير فى وقت قريب.. بل إن ميزان المخاطر يشير إلى تباطؤ فى النمو خاصة فى الأسواق الناشئة.
ومع ذلك، فإن المسئولين فى «الفيدرالي» ليسوا قليلى الحيلة. فهم يستطيعون شراء الوقت بأن يكونوا منظمين ومتحدين فى تحويل تركيز المشاركين فى السوق قصيرى المدى وسريعى الاهتياج، من موعد أول رفع للفائدة إلى التركيز الأكبر على متى ستنتهى دورة الرفع؟ ولا يوجد شيء فى البيئة المحلية أو العالمية يوحى بأن دورة سعر الفائدة القادمة ستتشارك مع السابقة فى الكثير من الخصائص. فوتيرة وفترات الرفع التدريجى لن تأتى بعد النمط التاريخى المتمثل فى الارتفاعات المتلاحقة فى اجتماعات لجنة السوق المفتوح. وبدلاً من ذلك، سيكون هناك مسار غير معتاد لرفع الفائدة والذى ستكون له نهاية أقل من المستويات المعتادة التاريخية لأسعار الفائدة، وبالنظر إلى عدم اليقين بشأن الركود الاقتصادى المستمر فى الاقتصادات المتقدمة وآثار السياسات النقدية التجريبية، هناك احتمالية قوية بانتكاسات سياسية بين الحين والآخر على طول الطريق. ومن خلال إدارة توقعات السوق نحو التركيز على ما سيعد «التضييق الأخف» فى تاريخ البنك المركزى الحديث، سيقلل «الفيدرالي» احتمالية تقلبات أسواق المال على المدى القصير. ولكن هذا لن يحل الاختلالات المالية والاقتصادية الكامنة التى يمكن أن تسبب زعزعة الاستقرار فى السوق وتمتد آثارها إلى الاقتصاد الحقيقي. ولن يحقق الاستقرار سوى التسارع المستدام للنمو الاقتصادي. وللوصول إلى هذا النمو، سيحتاج المسئولون فى «المركزي» خروج صناع الساسة الآخرين من على مقاعد الاحتياطى واستخدامهم للأدوات السياسية والتشريعية لتحسين ظروف الطلب، وللترويج للإصلاحات الهيكلية المشجعة على النمو، ولإزالة المديونية المفرطة، وترميم المؤسسات والكيانات الاقتصادية الإقليمية ومتعددة الجنسيات المتهدمة.
المصدر: وكالة أنباء «بلومبيرج».