تعرضت فى المقال السابق للأسباب المحتملة التى قد تكون أدت إلى انخفاض نسبة البطالة فى الولايات المتحدة من 14.7% فى شهر أبريل 2020 إلى 13.3% فى شهر مايو المنصرم رغم استمرار تداعيات تفشى وباء كوفيد 19 على مستويات عديدة.
أما فى هذا الجزء الثانى والأخير سأحاول أولاً مناقشة إمكانية أن يكون هذا توجه حقيقى ومستدام على المدى الطويل ثم استكشاف مدى ما يمكن أن يكون لذلك من تأثير على اقتصادات بقية بلدان العالم أو على الأقل جزء منها، خاصة فى القارة العجوز.
وبالنسبة لموضوع الاستدامة أعتقد أن الطفرة الكبيرة التى حدثت فى مواجهة كل الظروف المعاكسة، من الصعب أن تكون مجرد عملية وقتية سريعاً ما تزول، كما يعتقد البعض، بل أننى فى الحقيقة أتوقع أن تتحسن الأرقام فى هذا الصدد على مدار شهرى يونيو ويوليو القادم على الأقل وغالباً ما ستنخفض إلى ما دون مستوى 10% بنهاية يوليو على الأكثر.
هذا لأن الأرقام المتاحة لنا فى هذه اللحظة تشير بوضوح إلى انحسار الفيروس ولا يحتاج المرء لأن يكون متخصصاً فى علم الأوبئة ليفهم ذلك.
وهذه التوقعات تنبئ أيضاً بارتفاع صاروخى فى الإنفاق المحلى عما قريب، وحتى لو لم ينحسر كوفيد-19 بشكل ملموس، لن يكون هناك طريقاً للعودة مرة أخرى واستنساخ تجربة الغلق الكلى أو الجزئى مجدداً.
حتى بعيداً عن القيادة السياسية فى البلاد، الشعب نفسه فى أغلبه لن يتقبل ذلك.
ثم أننا نتحدث عن اقتصاد هو الأكبر على مستوى العالم منذ عام 1871 دون انقطاع ومتوقع أن يصل حجمه 22.32 تريليون دولار بنهاية عام 2020 بزيادة 1.75 تريليون دولار (8.5%) عن عام 2018 وكل ما قيل ولايزال يُقال عن الانهيار المزعوم لاقتصاد الولايات المتحدة لم يصدر فى الحقيقة عن متخصصين ولا عن عالميين بباطن الأمور، ولكن فقط عمن يكتفون بالأخذ بظاهر الأشياء، كمن يفتح الجريدة ولا يقرأ سوى عناوين مقالاتها وأخبارها.
فهناك اقتصاديات غير قابلة فى الأصل للانهيار أو التفكك بمثل هذه البساطة بسبب حجمها وتنوعها وبالتالى قدرتها على تشغيل العمالة، ربما تهزها حرب عالمية ثالثة أو انفجار قنبلة نووية على أراضيها، ولكن لن يطرحها أرضاً فيروس سيُكتشف له مصلاً وعلاج آجلاً أم عاجلاً، الاقتصاد الأمريكى من هذه النوعية.
فقط يجب على الإدارة الأمريكية أن تنتبه إلى أمرين، أولهما هو كبر حجم القوى العاملة الأمريكية التى تكاد أن تصل إلى نصف عدد المواطنين (160 مليون من 330 مليون) وهو ما يعنى أن نسبة 13.3% تمثل 21.280 مليون عامل تقريباً وهو ما يشكل بالتالى تحدياً من نوع خاص عند الرغبة إعادة تشغيل حتى 1% ممن فقدوا وظائفهم على مدار الأشهر الأخيرة.
أما ثانيهما فهو، أن متوسط أعمار القوى العاملة الأمريكية ارتفع فى السنوات الأخيرة ليصل إلى حوالى 42 سنة وبنسبة كبيرة فوق الـ50 وهو ما ربما يكون من شأنه خلق صعوبة فى التحول إلى صناعات بديلة بسلاسة وتأهيل العمالة لها، إن اقتضت ضرورة تلبية متطلبات السوق المتغيرة ذلك وهى متغيرات ستكون ديناميكية للغاية وطرحت بعض الأمثلة فى الجزء الأول من هذا المقال.
وأخيراً تأتى مسألة تأثير كل ذلك على الاقتصاد العالمى ودول أخرى عديدة وهو تأثير أظن أنه سيكون ضئيلاً على خلفية انتهاج ترامب لسياسات الانغلاقية على مدار العامين الماضيين تحديداً وإن كان ذلك لا يمنع أن بعض الدول الأوروبية قد تقرر أن تسلك مسلكاً مماثلاً باعتباره طريق ربما يكون من شانه إخراجهم من النفق المظلم الذى دخلوه منذ يوم أن أعلن الوباء.
هذا مع الوضع فى الاعتبار، إن البلدان الأوروبية الرئيسية غالباً ما لن تحتاج إلى ذلك من الأساس، فمعظمها شهدت فى الماضى نسب بطالة أعلى من الحالية بكثير مثل ألمانيا المتوقع لها 5.2% مع نهاية 2020 مقابل 8.1% كانت تعانى منهم فى 2009 وتمكنت من التغلب عليهم أو إنجلترا التى شهدت بطالة نسبتها 8.5% سنة 2011 مقابل 3.9% الآن دون أن ينهار اقتصادها وفرنسا التى بها لامست البطالة 10% فى 2013 مقابل 8% اليوم وظل الاقتصاد الفرنسى قائماً هو الآخر.
وبالتالى تقل احتمالية أن تتخذ تلك الدول إجراءات عودة بنفس درجة قسوة الولايات المتحدة، إلا إذا اتضح أن انخفاض نسب البطالة لديهم حتى اللحظة سببه التمويل الحكومى لخسائر الاقتصاد الحالية بحزم تحفيزية كبيرة كتلك التى اتفقا عليها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بقيمة 500 مليار يورو لأن هذا يعنى ببساطة أن موضوع انخفاض البطالة لديهم حتى اليوم ليس سوى فقاعة زائفة سريعاً ما ستنفجر فى وجه الجميع.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى