عندما اشتعلت النيران في كاتدرائية نوتردام في باريس العام الماضي، تم نشر طائرات صغيرة صينية الصنع للطيران بالقرب من اللهب، ونقلت فيديوهات إلى رجال الإطفاء لمساعدتهم على توجيه خراطيمهم.. وبالتالي تمكنوا من حفظ هيكل الكاتدرائية.
وتمت الإشادة بهذه الطائرات داخل الصين باعتبارها نجاحا كبيرا للتكنولوجيا المطورة في الموطن.
لكن كان هناك جانب آخر في القصة. فقبل أن تتمكن هذه الطائرات من الطيران، اضطرت السلطات الفرنسية ، لرفع القيود التي منعت، في الأوقات الطبيعية، هذه الطائرات من التجول في السماء الباريسية.
وهذا التناقض بين التكنولوجيا والسماح بتطبيقها يعد أمرا بالغ الأهمية. وأصبحت أغلب التكنولوجيات الصينية ترقى إلى المستوى العالمي، ولكن شركاتها الرائدة لا تزال مجهولة إلى حد كبير خارج سوقها المحلي. والآن عندما شرعت في طموحاتها العالمية، يبني الغرب أمامها سريعا سورا عظيما من المعارضة.
ويقول بعض المحللين، إن عالما ثنائي القطب بدأ يتشكل. فمن ناحية هناك دول ترحب بالتكنولوجيا الصينية والاستثمارات المليارية لشركاتها، ومن الناحية الآخرى هناك الغرب بقيادة أمريكا الذي يغلق أبوابه بدرجات متفاوتة أمام قائمة متزايدة مما يعتبر تكنولوجيات واستثمارات صينية حساسة.
ويسجل إغلاق القنصليات الأمريكية والصينية ، قبل أيام، ادنى نقطة في العلاقات الثنائية منذ السبعينيات كما أنه سيزيد حدة هذا الاستقطاب.
ويقول بول تريولو، خبير بشأن التكنولوجيا الصينية في مجموعة “يوراسيا” الاستشارية:” نحن بالفعل في عالم ثنائي القطب في أجزاء من قطاع التكنولوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي والبحث وتطبيقات المدفوعات التي تعد مختلفة بقدر كبير في الصين عن الولايات المتحدة”.
وبالتأكيد.. فإن السياسات الوطنية الصينية هي ما شكلت هذا الواقع، فالجدار الناري العظيم الذي أنشأته في العقود الماضية لعزل الإنترنت المحلي عن بقية العالم أدى إلى جعل قطاع التكنولوجيا المحلي بمثابة “مملكة جزر معزولة”، يسكنها لاعبون تكنولوجيون معزولون وأقوياء للغاية.
ويعد محرك البحث الرئيسي في الصين هو “بايدو” وليس “جوجل”. ولكنه خاضع إلى رقابة شديدة، ويشبه تطبيق المدفوعات “علي باي” الذي لديه 1.2 مليار مستخدم، نظيره الأمريكية “باي بال”، ولكنه يعد جزءا من شركة تدير أيضا أكبر صندوق استثمار وتعطي تصنيفات ائتمانية وتمتلك بنك على الإنترنت.
وكذلك لدى الصين تطبيق “وي تشات” الذي يختلف عن “واتس آب” في أنه يقدم وظائف أخرى.
وفي السنوات الماضية تخطت هذه الشركات الجدار الناري، وحاولت البحث عن حظوظها في الساحة العالمية، وكافح البعض للتكيف ولكن تمتع الكثيرون بنجاح كبير مثل “علي بابا” و”تينسينت”، اللتان تعدان من بين أكبر 10 شركات في العالم، وكذلك شركة معدات الاتصالات العملاقة هواوي.
ومع ذلك، ثمة رد فعل عنيف من السياسيين والمشرعين في الولايات المتحدة والهند وبعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا يدمر الطموحات الدولية للشركات الصينية.
وقال وزير الخارجية الأمريكية، مايك بومبيو، إن تحميل تطبيق “تيك توك” يضع “بياناتكم الشخصية في أيدي الحزب الشيوعي الصيني”.
ولدى “تيك توك” حوالي 26.5 مليون مستخدم شهري نشط في الولايات المتحدة أغلبهم تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاما.
وهذه الاتهامات ليست دون أساس، فقانون الاستخبارات الوطني الصادر في 2017 ينص على ان “أي مؤسسة أو فرد يجب أن يدعم ويساعد ويتعاون مع الاستخبارات الحكومية وفقا للقانون”، وعلاوة على ذلك من الصعب على شركات منها “تيك توك”، التي تنكر أنها سلمت معلومات المستخدمين للحكومة الصينية، أن تثبت عدم قيامها بذلك.
ويقول بول تريولو :”لقد وصلنا للحظة فاصلة”. فقد تمت إضافة عشرات الشركات الصينية إلى القوائم السوداء الأمريكية خلال الـ18 شهرا الماضية، ويجد كثيرون منهم أنه من الصعب أو من المستحيل الحصول على مكونات هامة مثل أشباه الموصلات من الموردين الأمريكيين.
ولكن هل كل ذلك كاف لإيقاف عمالقة التكنولوجيا الصينية؟
يقول مايكل باور، الاستراتيجي في “ناينتي وان”، وهي شركة إدارة اصول، إن نظرة سريعة على الصورة الكاملة توضح أن الجواب هو “لا”.
فمن ناحية، شركات التكنولوجيا الصينية مدعومة بموارد مالية هائلة، فعلى سبيل المثال تقدر قيمة مجموعة “آنت جروب” التي تمتلك “علي باي” وتخطط لطرح أسمهما في بورصات هونج كونج وشنجهاي قريبا بحوالي200 مليار دولار.
ومن ناحية أخرى، يقول باور إن الصين هي موطن أكبر وأكثر سلاسل توريد التكنولوجيا المبتكرة، مضيفا أنه في العديد من التكنولوجيات “تفوز الصين بشكل عادل ونزيه”.
ويرى الكثيرون، الشركات الصينية كرواد عالميين وفي طليعة معدات الاتصالات من الجيل الخامس والسكك الحديدية عالية السرعة وخطوط النقل عالية الجهد، والمركبات التي تعمل بالطاقة الجديدة والمتجددة والمدفوعات الرقمية ومجالات الذكاء الاصطناعي وغيرها.
فالطائرات التي ساعدت في انقاذ كاتدرائية نوتردام، كشفت مدى الحراك التكنولوجي المحلي. وكانت شركة “دي جاي آي” التي طورت تلك الطائرات بدأت في غرفة مسكن جامعي من قبل رواد أعمال من الطلبة.
بقلم: جيمس كينج، محرر مختص بشؤون الصين والأسواق الناشئة لدى صحيفة “فاينانشال تايمز”.
إعداد: رحمة عبدالعزيز. المصدر: صحيفة “فاينانشال تايمز”.








