التنمية المستدامة تمثل رؤية عالمية وحاجة ملحة، وهى قضية متعددة المحاور تتطلب تضافر القوى بين الدول وداخلها للتعامل معها وتطبيقها وحل مشاكل الفقر والاستدامة المعقدة فى ظل تضارب المصالح والمقايضات والاختيارات والمفاضلات الصعبة وضمان المسئولية.
وعرفت اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، «التنمية المستدامة» على أنها التنمية التى تلبى احتياجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال القادمة فى تلبية احتياجاتهم، وتشمل التطوير المستمر الشمولى والادارة الرشيدة لجميع الموارد لرفع مستوى المعيشة والحد من الفقر.
وصاغتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 17 هدفاً تغطى أهم القضايا نحو تحقيق نمو شامل وعالم مستدام خال من الفقر بحلول عام 2030.
وأدرجت هذه الأهداف فى خطة أممية للتنمية المستدامة لعام 2030 وكان ذلك فى يناير 2016، وقال حينها بان كى مون، الأمين العام للأمم المتحدة: «ليست لدينا خطة بديلة لأنه لا يوجد كوكب بديل».
وقدمت مصر نموذجاً يحتذى به فى ربط برنامج الحكومة وخططتها الاستثمارية بالأهداف القارية كأجندة أفريقيا 2063، وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة من خلال «رؤية مصر 2030» تركيزاً على 8 أهداف استراتيجية وطنية للتنمية المستدامة للارتقاء بجودة حياة المواطن المصرى وخلق اقتصاد تنافسى مستدام يعزز السيادة المصرية يراعى التنوع البيئى ويحقق الأمن والسلام والعدالة والاندماج الاجتماعى والمشاركة على أسس من المعرفة والابتكار والبحث العلمى وحوكمة مؤسسات الدولة والمجتمع.
وجاءت جائحة «كوفيد ـ 19»، لتكشف تحديات واخفاقات عالمية وعدم استعداد المؤسسات والدول عامة لحماية المواطنين والتعامل مع الأزمة، وأبرزت الحاجة لمعالجة مشاكل هيكلية وضعف الحوكمة ولوضع أسس وآليات التعاون للعمل معاً عبر المستويات المحلية والوطنية والدولية لحل المشكلات المشتركة.
وتسبب ضباببة المشهد الاقتصادى والانكماش عالمياً والضغط على اقتصاديات الأسواق الناشئة فى عرقلة جهود التعاون العالمى والإقليمى من أجل التنمية المستدامة، للتركيز على أجندات إدارة الأزمة المحلية ووضعت صعوبات فى مسار وقدرة المجتمع الدولى على الالتزام بالجدول الزمنى الحالى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) وتوفير التمويل اللازم.
وأفرزت الأزمة العديد من الظروف والتغيرات فى أنماط الاستهلاك والممارسات بين الدول والأفراد، والتى تمثل فرصة لتعزيز دور مصر التنافسى لجذب المستثمر الأجنبى الباحث فى الضبابية عن مكان جديد آمن لسلاسل التوزيع والإنتاج.
كما أبرزت الأزمة، أهمية دور القطاع الخاص والكيانات المصرية المحلية، فشركات القطاع الخاص الداعمة وقت الثورة والأزمات السابقة، هبت بنفس القوة لدعم الحكومة ومجهوداتها فى إدارة الأزمة ومكافحة كورونا، وضمان استمرارية عجلة الإنتاج والاقتصاد ودعم العمالة اليومية واستمرارية مبادرات التنمية المجتمعية.
وأصبح إشراك القطاع الخاص فى البناء والتنمية ودعم المستثمر المحلى والذى سيقود توطين الصناعات لتوفير اختيارات محلية للمستهلك المصرى ومنتجات تنافسية على رأس أولويات الحكومة.
وفرضت الأزمة أوضاعاً سيكون من الصعب تغييرها وهيأت الظروف لصحوة ولإعادة البناء ولصياغة مستقبل أكثر شمولاً واستدامة ومرونة، وسينبثق عهد جديد من أهم سماته حدوث طفرة فى التعاون والتنسيق من أجل البقاء بين الحكومات والقطاع الخاص معاً لتحقيق الاستقرار ونمو شامل مستدام ومتكامل وتشكيل عالم مختلف وأفضل «ما بعد كورونا».
وتتطلب هذه المرحلة الانتقالية عدة أسس تقوم على أولاً: علاقة وارتباط الشركات ومجتمع الأعمال بالمجتمع من الناحيتين: «أثره الشمولى» وتأثره، وما يستلزمه من تطور دوافع وأهداف مجتمع ورواد الأعمال لتحقيق «الرخاء المشترك» والوعى بقدرة أى مؤسسة على تحقيق النمو وتعظيم معدلات الربحية مرتبطة بترسيخ الاستقرار والثقة والازدهار المجتمعى.
كما أن القطاع الخاص شريك أصيل فى ايجاد حلول استثمارية مبتكرة تراعى الاحتياجات البيئية والاجتماعية والحوكمة لتحقيق نتائج استثمارية وتنمية مستدامة وأنظمة اقتصادية وصحية واجتماعية متماسكة متكاملة وشاملة ومرنة.
ثانياً: وعى والتزام مجتمع الأعمال بمفهوم «المستثمر المسئول» لتحقيق نمو طويل المدى يدمج أهداف الاستدامة فى استراتيجيات العمل، ومبنى على الممارسات الأفضل بيئياً فى الاستهلاك والإنتاج والتعامل مع المخلفات ورشادة توظيف الموارد والصناعات النظيفة، واستخدام تكنولوجيا صديقة للبيئة، وممارسات الحوكمة المسئولة داخل الشركة ومواثيق السلوك المهنى وتحقيق المساواة الحقيقية بين كل الفئات فى فرص العمل والتدرج الوظيفى بحيث يصبح المجتمع ككل هو الفائز.
ثالثا: تطور هدف مجتمع ورواد الاعمال لتحقيق «الرخاء المشترك» والوعى أن قدرة أى مؤسسة على تحقيق النمو وتعظيم معدلات الربحية مرتبطة بترسيخ الاستقراروالثقة والازدهار المجتمعى اللازمين لممارسة الأعمال بكفاءة، وضمان تحقيق النمو المستدام وضرورة التعاون من أجل البقاء بدلا من صراع المصالح.
رابعاً: الوعى بأن التحول الرقمى لم يعد رفاهية بل ضرورة لتسريع الحلول الذكية للتنمية المستدامة وميكنة الأعمال لتحقيق كفاءة والارتقاء بمستوى العمالة وتمكينها تكنولوجيا للمنافسة فى سوق عمل الثورة الصناعية الرابعة ومتطلباتها.
خامساً: الاستثمار فى القطاعات الواعدة مثل تعميق وتوطين الزراعة وتحول الاستهلاك والاستخدام لموارد الطاقة المحلية الأنظف.
سادساً: قياس النجاح بمنظور تنموى أوسع ليس فقط بقياس دورى قصير المدى للنمو المالى وتحقيق عائد مادى للمساهمين، ولكن من خلال استدامة الأثر الإيجابى وقياس «النتائج متعددة الأبعاد – بيئياً ومجتمعياً واقتصادياً «طويلة المدى على كل أصحاب الصلة وسلاسل القيمة -تطوعياً أو إلزامياً -كأساس لتحسين الأداء.
بقلم: غادة حمودة
رئيس قطاع الاستدامة والتسويق بشركة القلعة للاستشارات المالية