إن مشكلة التيسير الكمي، كما ذكر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بن برنانكي عام 2014 ، تتمثل في “أنه يُحقق أداء جيدًا في الممارسة العملية ولكنه لا يصلح من الناحية النظرية”.
يمكن للمرء أن يقول نفس الشيء عن سياسة الاقتصاد الكلي عمومًا، بمعنى أنه لا توجد نظرية قوية تدعم هذه السياسة. وتعمل الحكومات عادة على “تحفيز” الاقتصاد من أجل “مكافحة” البطالة، ولكن في ظل نظرية تنفي وجود أي بطالة ينبغي مكافحتها.
وبصرف النظر عن التدقيق الحسابي، فقد عاد علم الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل قرن من الزمان: دراسة تخصيص الموارد المُتاحة، بالإضافة إلى نظرية كمية النقود. والواقع أن نظرية الاقتصاد الكلي – وهي نظرية الإنتاج ككل التي اخترعها جون ماينارد كينز – تلاشت فعليًا.
على سبيل المثال، ما السبب وراء ارتفاع معدل البطالة؟ الجواب البديهي هو “جمود الأجور المُنخفضة”. إن مصفف الشعر الذي يطلب أجرًا قدره 14 دولارًا في الساعة، ولكن يمكن أن يعمل بشكل مربح فقط مقابل 13 دولارًا في الساعة، يختار عدم العمل. وبذلك يُصبح هذا الاختيار طوعيًا، مما يعكس تفضيلًا للاستمتاع بأوقات الفراغ، أو قرارًا بعدم العمل كمُصفف للشعر. وينطبق الشيء نفسه على جميع العاملين في الاقتصاد. من وجهة النظر هذه، فإن ما يُسمى بالبطالة هو خيار عدم العمل.
الافتراض الأساسي هنا هو أن الجميع يعملون على النحو الأمثل: إذ يختارون أفضل الخيارات المتاحة لديهم.
إن العمل مُتاح دائمًا بسعر مُعين. لذلك، تُعد البطالة الحل الأمثل بالنسبة للعاطلين عن العمل. بالنظر إلى هذا الافتراض، فإن المنطق الذي نستند إليه في هذا السياق لا يمكن نفيه.
لذلك، إذا قامت الحكومة بتوسيع المعروض النقدي في محاولة لخلق مزيد من فرص العمل، فإن النتيجة الوحيدة ستكون ارتفاع معدلات التضخم، وذلك لأن التوسع النقدي لا يُساهم في زيادة المعروض من العمالة الراغبة في العمل. وبالتالي، ينبغي للسياسة النقدية أن تهتم فقط بتحقيق هدف استقرار الأسعار، والأفضل أن يعهد به إلى بنك مركزي مُستقل بعيدا عن الإغراءات السياسية.
ويعد المُضاعف، وهو الصيغة المُتقنة لحساب التأثير المتضخم لأي تغيير تصاعدي أو تنازلي في الإنفاق، هو العامل الوحيد في آلية الاقتصاد الكلي الذي نجا من انهيار السياسات الكينزية لإدارة الطلب. حتى هذه الأداة لم تعد تُستخدم إلى حد كبير – كان من المفترض أن تكون المضاعفات صفرية – قبل أن تعمل الصدمة المالية والاقتصادية لعام 2008-2009 على إعادة استخدامها.
تؤكد النظرية الاقتصادية الحديثة أن العقبات التي تحول دون تحقيق العمالة الكاملة ليست راسخة بل عقبات عرضية. وبالتالي، يمكن الحد منها من خلال إصلاحات سوق العمل المُصممة “لإلغاء تثبيت” الأجور الثابتة، وكذا تحسين تنظيم عمل البنوك.
وفي ظل الانكماش الدوري – وهي حالة من عدم التوازن – يُدرك معظم الاقتصاديين الآن على نحو صارخ أن السياسة التوسعية يمكن أن تزيد الطلب على العمالة في الأمد القريب حتى في ظل معدل الأجور السائد.
كانت هذه مساهمة من كينز.
وكما ذكر خبير الاقتصاد روبرت لوكاس الحائز على جائزة نوبل في عام 2009: “أعتقد أن الجميع يُصبحون في أوقات الأزمات من أتباع كينز”.
قد تكون هذه السياسات إما نقدية أو مالية. وبوسع البنوك المركزية زيادة المعروض من الأموال للشركات الخاصة لتعزيز قدرتها على توظيف مزيد من العمال، أو تتمكن الحكومات من إدارة العجز في الميزانية.
كانت “النظرية الكينزية النقدية” (في هيئة التيسير الكمي) هي الاستجابة الرئيسية للركود العظيم في الفترة ما بين عامي 2008 و 2009. واعتقد برنانكي أنه نجح في الممارسة العملية، لكن ليس من الناحية النظرية. في الواقع، لم ينجح الأمر من الناحية العملية أيضًا.
ويزعم أنصار التيسير الكمي أن الأمور كانت ستصبح أسوأ بدونه. ومن المستحيل إثبات أو نفي ذلك.
وتظل الحقيقة أن الانتعاش من الصدمة المالية في عامي 2008-2009 لم يكتمل بعد اندلاع أزمة جائحة فيروس كوفيد 19 الجديدة في عام 2020، لأن الكثير من أموال التيسير الكمي كانت مُدخرة ولم تُنفق.
ودفعت جائحة فيروس “كوفيد 19” الحكومات إلى التراجع عن تبني النظرية “الكينزية المالية”، لأنه لم يكن هناك أي سبيل أن تؤدي مجرد زيادة كمية الأموال إلى إعادة فتح الشركات التي منعها القانون من القيام بذلك. كانت النظرية الكينزية المالية خلال تدابير الإغلاق الشامل تعني توزيع مدفوعات الخزانة على الأشخاص الممنوعين من العمل.
ولكن اليوم، وبعد إعادة فتح الاقتصاد، اختفى الأساس المنطقي العملي للتوسع النقدي والمالي. ويعتقد المعلقون الماليون الرئيسيون أن الاقتصاد سينتعش وكأن شيئًا لم يحدث. بعد كل شيء، لا تواجه الاقتصادات الأزمات في كثير من الأحيان أكثر مما يُواجهها الأفراد عادة. لذلك، فقد حان الوقت لتشديد السياسة النقدية والمالية على حد سواء، لأن استمرار التوسع في أي منهما أو كلاهما لن يؤدي إلا إلى “ارتفاع معدلات التضخم”.
وبوسعنا جميعًا الآن أن نتنفس الصعداء؛ فقد انتهت الأزمة، وسوف تُستأنف الحياة الطبيعية دون بطالة.
وبالتالي، فإن العلاقة بين النظرية والتطبيق ليست كما رآها برنانكي.
إن السياسة النقدية صالحة من الناحية النظرية ولكن ليس في الممارسة العملية؛ والسياسة المالية فعالة في الممارسة العملية ولكن ليس من الناحية النظرية.
ولا تزال النظرية الكينزية المالية سياسة تبحث عن نظرية. وقدم أسيموغلو ولايبسون ولاسْت جزءًا من النظرية المفقودة عندما لاحظوا أن الصدمات “يصعب التنبؤ بها”. كان كينز يقول إنه من المستحيل التنبؤ بوقوع الأزمات، ولهذا السبب رفض وجهة النظر المُعتادة القائلة بأن الاقتصادات مستقرة بشكل دوري في غياب الصدمات (وهو أمر عديم الفائدة مثل قول إن الأوراق لا ترفرف في غياب الرياح).
يمكن لنماذج العرض والطلب التي يدرسها طلاب الاقتصاد في السنة الأولى أن تضيء مسار التوازن في صناعة تصفيف الشعر ولكن ليس في الاقتصاد ككل.
إن الاقتصاد الكلي هو نتاج عدم اليقين. وما لم يدرك الاقتصاديون وجود حالة من عدم اليقين لا مفر منها، لا يمكن أن تكون هناك نظرية للاقتصاد الكلي، ولن يتبقي سوى استجابات احترازية لحالات الطوارئ.
بقلم: روبرت سكيدلسكي، عضو في مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.
المصدر: موقع بروجكت سينديكيت.








