سلوك مختلف للدول فى التعامل مع آثار الحرب
توقعات النمو لعام 2022 للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية لم تكن محفزة
السيولة العالمية لأصول اقتصادات الأسواق الناشئة لا تزال ميسرة
قال مركز التنمية العالمى “سى جى دي” فى تقرير له، إن توقعات النمو الصادرة من قبل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى لعام 2022 لـ”الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية”، الصادرة فى يناير من العام الجاري، لم تكن محفزة.
كما تبين أن أساسات الاقتصاد الكلى المتدهورة، الناتجة جزئيًا عن استجابات السياسات للوباء، وأوجه القصور المؤسسية العميقة، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية فى العديد من البلدان، قد تضافرت لإضعاف محركات النمو بشكل كبير فى العديد من الاقتصادات. كما بدأت الضغوط التضخمية فى الارتفاع ، والتى ترجع بشكل جزئى إلى عوامل خارجية، وأبرزها تعطل سلسلة التوريد والزيادات فى أسعار الطاقة، وفى بعض الحالات، الأثار الكبيرة لتراجع قيمة العملة.
مما أثار مخاوف بعض المحللين الاقتصادين من أن العديد من البلدان قد تدخل فترة من الركود التضخمي، مع معدلات نمو بطيئة وتضخم مرتفع.
ووفقا لما ذكره المركز، فإن مدة الحرب وانتشارها وشدتها ستحدد حجم الآثار المترتبة على الأسواق الناشئة نتيجة لها، وجميع هذه العوامل لم يتم تحديدها بشكل دقيق فى الوقت الحالي، كما أن السياسات الاقتصادية التى تنتهجها الاقتصادات المتقدمة ستلعب دورًا، ولا سيما السياسة النقدية التى تؤثر على السيولة العالمية.
وقال المركز إنه من المؤكد أن الآثار الاقتصادية الكلية للأزمة الأوكرانية تتدفق عبر قنوات تجارية ومالية متشابكة. وفيما يتعلق بالقناة التجارية، تؤثر الارتفاعات الكبيرة فى أسعار السلع الأساسية بشكل سلبى على المستوردين الصافين لهذه المنتجات، حيث يستفيد المصدرون من أزمة معدلات التبادل التجارى الإيجابية. لكن فيما يتعلق بالقطاع المالى ازداد إدراك المستثمرين للمخاطر المرتبطة بالتطور غير المؤكد للصراع.
كما تتأثر تدفقات رأس المال إلى بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية بشدة بتوقعات المستثمرين للمخاطر، وكذلك بالعوائد من أصول هذه البلدان.
وفى حال ظلت السيولة العالمية متيسرة والعائد الذى توفره السندات للأسواق الناشئة بالنسبة لتلك المعروضة فى الاقتصادات المتقدمة مرتفعًا، فقد يتم تعويض القفزة فى المخاطر بشكل جزئى من خلال العوائد المرتفعة، والتى تشمل التدفقات المتوقعة لرأس المال إلى الخارج من بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية.
ويلعب الاحتياطى الفيدرالى والبنوك المركزية الأخرى فى الاقتصادات المتقدمة دورًا جوهرياً.
أسعار السلع والسيولة العالمية
ورغم التوقعات بانخفاض الأسعار على المدى المتوسط ، فإن العقود الآجلة لمعظم السلع أصبحت حالياً أعلى بكثير مما كانت عليه قبل الصراع الروسى الأوكراني، مما يشير إلى حدوث صدمة معاكسة كبيرة ومستمرة لشروط التبادل التجارى لصافى مستوردى السلع الأساسية.
ماذا عن الضغوط فى الأسواق المالية؟
وذكر ” سى جى دي” أن هناك مؤشرات معروفة لقياس الوضع الحالي، بما فى ذلك مؤشر الخزانة الأمريكية للإجهاد المالي، الذى يقيس التوتر فى الأسواق المالية العالمية، ومؤشر سندات الأسواق الناشئة العالمى، وهو مؤشر على مخاطر السندات الحكومية فى الأسواق الناشئة.
وترتبط الزيادات الحادة والمستمرة فى هذه المؤشرات، بفترات من المشاكل المالية والاقتصادية العميقة فى الأسواق الناشئة، وتؤدى الزيادة الكبيرة فى إدراك المستثمرين للمخاطر إلى التوجه نحو الأصول الآمنة مثل سندات الخزانة الأمريكية، وتقليل السيولة العالمية المتاحة لتلبية احتياجات التمويل فى الأسواق الناشئة.
ورغم ارتفاع كلا المؤشرين بشكل مفاجئ فى بداية الصراع الروسى الأوكراني، لكنهما صححا القفزة الأولية جزئيًا على الأقل. كما أن الارتفاعات فى كلا المؤشرين عند أعلى مستوى لهما كانت أقل بكثير من تلك التى لوحظت خلال الفترات التى كان فيها نقص السيولة العالمية مشكلة خطيرة للأسواق الناشئة، مثل أثناء الأزمة المالية العالمية وفى بداية جائحة كورونا.
وأوضح “سى جى دي” أنه رغم اندلاع الحرب، لا تزال السيولة العالمية التى يمكن توجيهها نحو أصول اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، متوفرة ومتاحة. ورغم إصرار بنك الاحتياطى الفيدرالى على مواجهة معدلات التضخم المتزايدة من خلال سلسلة من زيادات أسعار الفائدة، لكن تظل معدلات الفائدة الحقيقية، أو ما يعرف بالمعدلات الاسمية المنكمشة بفعل التضخم، سلبية للغاية عبر منحنى العائد بأكمله.
تقييم مدى تعرض بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية للحرب
وأشار ” سى جى دي” إلى أنه فى حال توافر السيولة العالمية، فمن الصعب توقع ضائقة عامة فى اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية جراء الحرب.
ومن المتوقع أن تشير الزيادة المعتدلة فى تجنب المخاطرة إلى تمايز المستثمرين الإضافيين بين البلدان عند تخصيص الموارد، بدلاً من تدفقات رأس المال الواسعة إلى الخارج. لكن هذا يمكن أن يتغير فى حالة قيام بنك الاحتياطى الفيدرالى والبنوك المركزية الأخرى فى الاقتصادات المتقدمة، بدافع من الضغوط التضخمية المستمرة، بزيادة أسعار الفائدة بشكل مفاجئ وبوتيرة سريعة.
ولكن نتوقع أن تكون البلدان الأكثر تضررًا هى تلك التى تؤدى الحرب فيها إلى زيادة احتياجاتها التمويلية الخارجية بشكل حاد وحيث تضغط أرصدة الديون غير المسددة على تكاليف تمويلها الخارجي. إذا استمر النزاع لفترة طويلة، فقد تواجه تلك البلدان صعوبات شديدة فى إعادة تمويل الالتزامات الخارجية.
الأكثر تضررا
ذكر المركز أن من المؤشرات المشتركة لاحتياجات التمويل الخارجي، نسبة عجز الحساب الجارى بالإضافة إلى الديون قصيرة الأجل إلى الاحتياطيات الدولية. وكلما ارتفعت هذه النسبة، انخفضت قدرة الدولة على إظهار أن لديها موارد كافية بالعملة الصعبة، للوفاء بالتزاماتها الخارجية.
وفى أوقات الضبابية على الصعيد العالمي، تصبح التراكمات الكبيرة من الاحتياطيات الدولية مفيدة بشكل خاص.
وبالتالي، فإن البلدان التى ستتأثر احتياجاتها التمويلية أكثر من غيرها هى البلدان المستوردة الصافية للسلع الأساسية التى لديها نسب عالية من الديون قصيرة الأجل للاحتياطيات الدولية. ولتحديد مستوردى السلع الصافية، نطرح القيمة الإجمالية لصادرات السلع من القيمة الإجمالية لواردات السلع لكل بلد، باستخدام بيانات الأمم المتحدة.
وتمثل الزيادة المستمرة فى أسعار السلع الأساسية صدمة كبيرة فى معدلات التبادل التجارى وقد تؤدى إلى زيادة احتياجاتها التمويلية لعام 2022.
وقال “سى جى دي” إنه بحلول نهاية عام 2021 كان هناك اختلاف كبير بين الدول فيما يخص معدلات التبادل التجاري. فعلى سبيل المثال تختلف كل من جواتيمالا وفيتنام وجمهورية الدومينيكان والفلبين وتايلاند من جهة، وسريلانكا وتونس وتركيا وموزمبيق ومصر من جهة أخرى.
ويعتبر النفط والغاز والمعادن من بين أهم الواردات فى جميع هذه البلدان، مع كون مصر وموزمبيق وتونس وسريلانكا من أكبر المستوردين للقمح. ورغم ذلك، نظرًا لمخزونها الكبير من الاحتياطيات الدولية والنسب الصغيرة نسبيًا للديون قصيرة الأجل، فمن المتوقع أن تكون تايلاند والفلبين وجمهورية الدومينيكان قادرة على تحمل تدهورًا كبيرًا فى رصيد حسابها الجارى فى عام 2022 فى مواجهة استمرار ارتفاع أسعار السلع التى يستوردونها. كما أن جواتيمالا، مثل فيتنام، دخلت فترة الحرب بفائض فى الحساب الجاري.
فى المقابل، كانت سريلانكا وتونس وتركيا وموزمبيق ومصر عرضة بالفعل للصدمات الخارجية قبل اندلاع الحرب، حيث أن مخزوناتها من الاحتياطيات لم تكن كافية لتغطية احتياجاتها التمويلية. من خلال تفاقم الاستقرار المالى الكلى الذى تعرض للخطر بالفعل، قد تدفع أسعار السلع المرتفعة المستمرة بعض هذه البلدان إلى حافة الهاوية.
وقبل الأزمة الحالية، كانت تركيا تتعامل مع أعلى معدلات التضخم فى العشرين عامًا الماضية، بينما كانت تتخذ قرارات سياسية غير تقليدية وتعانى من اضطرابات اجتماعية متزايدة. فى حين أن مصر، التى تأثرت بشكل أكبر بانخفاض عائدات السياحة، تطلب دعم صندوق النقد الدولي، كما أن كل من سريلانكا، وتونس وموزمبيق تجريان بالفعل محادثات بشأن برامج صندوق النقد الدولي.
اقرأ أيضا: البنك الدولى: ديون الدول الناشئة تضعها تحت ضغوط الاقتصاد العالمى
وأوضح مركز ” سى جى دي” العلاقة بين إجمالى الدين الخارجى و إجمالى الناتج المحلى، والاحتياجات المالية الخارجية أى إجمالى التدفق لنفس مجموعة البلدان المستوردة الصافية للسلع الأساسية.
وقال إنه لا يجب أن نندهش من أن هناك علاقة إيجابية وثيقة بين البلدان ذات الاحتياجات التمويلية الكبيرة لعام 2022 وتلك التى لديها نسب كبيرة من الديون الخارجية.
وينعكس هذا الاختلاف الجوهرى بين الدول فى توقعات المستثمرين للمخاطر كما ينعكس فى الفروق بين عوائد السندات الحكومية للدولة لمدة 10 سنوات وسندات الخزانة الأمريكية لمدة 10 سنوات.
وقال المركز إن الحرب الأوكرانية ستكون بمثابة ضربة قاسية لتلك البلدان المستوردة الصافية للسلع الأساسية وتواجه احتياجات تمويل خارجية كبيرة، حيث يؤدى الصراع إلى تفاقم نقاط الضعف الموجودة مسبقًا.
ويعتمد انتشار تأثير الصراع بشكل أكبر فى مجموعة بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية على عاملين. ويتمثل العامل الأول فى تطور الحرب وتأثير العقوبات على الاقتصاد العالمي. فى حين يتعلق العامل الثانى بمدى استجابة البنوك المركزية فى الاقتصادات المتقدمة، لاسيما بنك الاحتياطى الفيدرالي، على ارتفاع معدلات التضخم.
وفى حال جاءت زيادة أسعار الفائدة بوتيرة أكبر وأسرع من المتوقع، فقد تنكمش السيولة العالمية بشكل حاد، وقد يتزايد نفور المستثمرين من المخاطرة، وقد تنخفض تدفقات رأس المال إلى بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية فى حالة تدهور أى من هذه الظروف الخارجية.
وبالتركيز فى قضية الديون، كانت أزمة الديون التى ظهرت على الساحة ولاتزال تهدد بعض البلدان منخفضة الدخل، لا سيما فى أفريقيا، لفترة من الوقت. ووفقًا لتصنيف البنك الدولى الذى سبق الحرب الأوكرانية، من بين الاقتصادات فى عينة البحث، كانت موزمبيق تعانى من ضائقة ديون، مما يعنى أنها كانت تواجه بالفعل صعوبات فى خدمة ديونها.
فى حين تواجه دول أخرى مثل تنزانيا ورواندا وأوغندا، مخاطر معتدلة. ورغم ذلك قد تزيد الصدمة الأخيرة لمستوردى السلع من الضغوط على هذه البلدان.
وتمشيا مع تصنيف البنك الدولي، كانت بنجلاديش تواجه خطر أقل للتعرض لضائقة الديون، ولديها ديون خارجية تقل عن 50% من إجمالى الناتج المحلى وهى فى النسب المئوية الأدنى لتوزيع الاحتياجات المالية الخارجية.