كان من المفترض أن تتمتع تركيا بفترة نقاهة تلتقط خلالها أنفاسها، لكن الانتخابات الأخيرة فاجأت المستثمرين بإعادة تعيين رجب طيب أردوغان رئيسا للبلاد في 28 مايو، بجانب تعميقها للضائقة الاقتصادية التي تواجهها.
في الأسبوعين الماضيين، خسرت الليرة التركية 5% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، لتسجل 21 ليرة للدولار الواحد، ويعتقد بعض الاقتصاديين أنها قد تصل إلى 30 ليرة للدولار بحلول نهاية العام، رغم محاولات الحكومة دعم العملة المحلية.
تراجع صافي احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي التركي بعد أن استُنفد وسط فرار المدخرين والمستثمرين من العملة المحلية الآخذة في التراجع.
هذه الصعوبات تعد أعراض السياسة النقدية غريبة الأطوار.
ففي عام 2021، ووسط مواجهة الضغوط التضخمية التي دفعت البنوك المركزية حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة، اتجهت تركيا لخفضها.
اعتقادًا بأن أسعار الفائدة المنخفضة تُسهم في خفض التضخم- عكس العقيدة الاقتصادية- فقد سلح أردوغان مرارًا وتكرارًا البنك المركزي للبلاد بقوة لخفض تلك المعدلات.
وبالفعل، أبقت لجنة السياسة النقدية سعر الفائدة على الإقراض لليلة واحدة الآن عند 8.5%، فيما تشير الأرقام الرسمية إلى بلوغ التضخم السنوي 86% في 2022.
ومنذ ذلك الحين، تراجع التضخم، إما إلى 44%، وفقًا للتقديرات الرسمية، أو بلغ مستويات أعلى حسب التقديرات المستقلة.
وهذا يوضح تباهي أتباع أردوغان بأنه كان على حق طوال الوقت، حسبما نقلت مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
في الواقع، انخفض التضخم بسبب انخفاض أسعار الطاقة، وتدخل البنك المركزي في أسواق العملات و “التأثيرات الأساسية”، حيث ترفع الزيادات السابقة في الأسعار القاعدة التي يُحسب على أساسها التضخم.
بغض النظر، يبدو أن أردوغان سيستمر في سياسته، على الأقل لبعض الوقت، فقد أكد في خطاب النصر الذي ألقاه أنه، بجانب السياسة النقدية المتساهلة، “سينخفض التضخم أيضًا”.
ومع ذلك، فإن أردوغان محق في شيء ما، وهو أن التضخم في تركيا يمثل لغزًا للاقتصاديين، حتى لو لم يكن بالطريقة التي يقترحها.
يشير استمرار انخفاض أسعار الفائدة والتضخم المرتفع إلى أن سعر الفائدة الحقيقي في تركيا كان سلبياً للغاية لبعض الوقت.
ويجب أن يصبح هذا الأمر غير مستدام بسرعة، لأنه يمكن المضاربين من تحقيق ربح كبير من خلال الاقتراض بالليرة والاستثمار في الأصول المستقرة مثل الإسكان أو العملات الأخرى، ما يؤدي إلى زيادة انخفاض قيمة الليرة وزيادة التضخم.
كيف إذن بقيت أسعار الفائدة الحقيقية سلبية لفترة طويلة؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لمسار التضخم المستقبلي؟
البحث عن إجابات
يجب أن نفهم نهج أردوغان؛ أولاً وقبل أي شئ، فقد وُضح ذلك بشكل أفضل في 2018، عندما قدم المستشار جميل إرتيم مخططًا يشير إلى معادلة مدروسة في العديد من النماذج الاقتصادية وسميت على اسم الاقتصادي إريفينج فيشر، إذ تنص “معادلة فيشر” على أن سعر الفائدة الاسمي هو مجموع سعر الفائدة الحقيقي ومعدل التضخم المتوقع.
يعتقد معظم الاقتصاديين أن المعدل الحقيقي يُحدد عبر عوامل، مثل معدل النمو طويل الأجل، والتي لا يملك صُناع السياسة نفوذًا كبيرًا عليها، ويجب أن يُسهم المعدل الاسمي المنخفض، على الأقل وفقًا لتفسير إرتيم، في خفض التضخم.
جادل إرتيم بأن هذا سيحدث إذا خفضت الشركات تكاليف الاقتراض للمستهلكين كأسعار أقل.
ومع ذلك، عندما اختُبرت النظرية في أواخر 2021، ثبت خطأ أردوغان، فقد واصل التضخم الارتفاع بعد كل شيء.
كانت المشكلة أن القنوات الأخرى التي تؤثر من خلالها أسعار الفائدة على التضخم سيطرت على قناة التكلفة التي توقع إرتيم من خلالها خفض التضخم، كما يقول سيلفا ديميرالب، من جامعة كوتش.
ولا يزال هذا يترك لغز سعر الفائدة الحقيقي السلبي في تركيا، لكنه يبدأ في الانهيار عند النظر في أنواع أخرى من المعدلات الحقيقية، والتي لم تكن سلبية.
في بعض الحالات، يتم التلاعب بأسعار الفائدة بسبب سياسة الحكومة، ففي القطاع التجاري، مثلاً، يُطلب من البنوك عدم الإقراض فوق سعر فائدة معين، والنتيجة هي أنهم ببساطة يتجنبون تقديم معظم القروض، فيما تحصل الصناعات المفضلة، مثل البناء، على الائتمان.
كما طلبت تركيا من البنوك الاحتفاظ بسندات مقابل ودائع بالعملات الأجنبية، ما يدعم في الواقع الاقتراض الحكومي.
ولأن المستثمرين لا يعتقدون أن البنك المركزي سيتخذ خطوات صارمة لكبح التضخم في المستقبل، فقد ارتفعت توقعات التضخم، وهذا أدى بدوره لارتفاع معدلات الإقراض الاستهلاكي، خاصة بالنسبة للقروض طويلة الأجل، لأن المستثمرين يطالبون بعائد أعلى كلما انخفضت القوة الشرائية التي يتوقعون أن تحتفظ بها الليرة مستقبلاً.
لذلك، إذا حكمنا على أسعار الفائدة الحقيقية من خلال معدلات القروض الاستهلاكية، فقد لا تكون كلها سلبية.
وبالمثل، فإن العوائد على الأصول الأخرى أعلى بكثير مما يوحي به معدل سياسة البنك المركزي، وهذا يتسبب في فرار الشركات والأسر والمستثمرين من العملة.
تريد الحكومة دعم الليرة، لكن ليس هناك الكثير مما يمكنها فعله، فهي حاولت وقف الفرار من العملة من خلال إجبار الشركات المصدرة على بيع 40% من عائداتها من العملات الأجنبية للبنك المركزي.
وفي أواخر 2021، قدمت الحكومة مخططًا يتم بموجبه حماية بعض الودائع بالليرة من الاستهلاك.
يعتقد بعض الاقتصاديين أن أردوغان قد يخفف نهجه، وبالتالي ستتمتع تركيا ببعض الراحة الاقتصادية خلال الصيف، عندما ينخفض استهلاك الطاقة وترتفع عائدات السياحة.
تمكن أردوغان من الحفاظ على الليرة ثابتة بفضل اتفاقيات الصرف الأجنبي مع حلفائه أمثال روسيا والسعودية، لكنها، في الخريف، قد يضطر إلى التخلي عن وعده بمواصلة سياسة انخفاض أسعار الفائدة، ربما من خلال وسائل غير مباشرة مثل تخفيف القيود على معدلات الإقراض التجاري.








