تدرك بكين أنها بحاجة إلى إيجاد طريقة لزيادة الإنفاق الاستهلاكى، خاصة أن الأسر الصينية تجنى الآن قليلاً من المال وتنفق أيضاً القليل وتدخر الكثير.
ولسوء الحظ، فى ظل السياسات الاقتصادية للدولة الصادرة من الجهات العُليا، من المقرر أن تستمر هذه المشاكل وتؤثر على آفاق التنمية الصينية على المدى الطويل.
كان ضعف الانتعاش الاقتصادى للصين عقب إنهاء الرئيس شى جين بينج قيود “كورونا” فجأة فى ديسمبر الماضى أمراً مثيراً للدهشة بالنسبة للمستثمرين، الذين أرجع بعضهم السبب فى ذلك إلى القيود الأمريكية على مبيعات أشباه الموصلات والاضطرابات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وفى الواقع، فإن الجانى الرئيسى يتواجد فى مكان أقرب بكثير إلى الوطن، والصين تدرك ذلك جيدًا، حسبما ذكرت مجلة “نيكاى آسيان ريفيو” اليابانية.
فى 2007، وصف رئيس الوزراء آنذاك وين جياباو الاقتصاد الصينى بأنه غير مستقر بشكل متزايد وغير متوازن وغير منسق وغير مستدام فى النهاية.
ولم تتحسن الأمور منذ ذلك الحين، فقد فشلت جهود إعادة التوازن فى الاقتصاد من خلال زيادة الإنفاق الاستهلاكى على حساب الاستثمار والصادرات إلى حد كبير.
ويشكل استهلاك الأسر الحقيقى 53% من الناتج المحلى الإجمالى لليابان و70% فى الولايات المتحدة، فيما بلغ هذا الرقم فى الصين 40% فقط فى عام 2021، رغم أن ذلك يمثل تحسناً من نسبة 34% المسجلة فى عام 2007.
وتعتبر الأسر الصينية مدخرين متعطشين، فبما أن الخدمات العامة وشبكة الأمان الاجتماعى فى البلاد متخلفة، ووسط صعوبة تنمية ثروة الأسرة، فإن المواطن يدخر المال لدفع ثمن كل شئ بدءًا من الرسوم المدرسية والفواتير الطبية غير المتوقعة وصولاً إلى نفقات التقاعد.
ويعتبر جانب الدخل فى المعادلة هام أيضًا، فقد ارتفعت تعويضات العمل فى الصين بشكل حاد بين عامى 2011 و2016، حيث أدى انخفاض حجم القوة العاملة المهاجرة إلى تعزيز القدرة التفاوضية للعمال.
ومع ذلك، فقد استقر معدل الزيادة منذ ذلك الحين، وأصبحت حصة الأجور كنسبة مئوية من الناتج المحلى الإجمالى قابلة للمقارنة الآن مع الولايات المتحدة، وهذا يعنى أن الأسر لا يمكنها الاعتماد على المزيد من مكاسب الأجور الكبيرة لتمويل زيادة الإنفاق، ولا يمكنهم الاعتماد أيضاً على الحصول على عوائد أعلى على أصولهم.
جدير بالذكر أن نسبة الدخل من استثمارات الأسر تتجاوز الـ18% من الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة مقابل 4% فقط فى الصين.
هذا هو السبب الرئيسى الذى يجعل الدخل المتاح للأسرة كحصة من الناتج المحلى الإجمالى فى الصين أقل بكثير منه فى الولايات المتحدة.
وفى الوقت نفسه، تعتبر الأصول الرئيسية للأسر الصينية من الطبقة المتوسطة هى العقارات، فعادة ما تشترى الأسر شقق سعياً وراء مكاسب رأس المال، وغالباً ما تتركها شاغرة بدلاً من تأجيرها.
وكانت جهود الحكومة لتطوير سوق العقارات المؤجرة فى الصين مخيبة للآمال، مما يستبعد تمثيل الإيجارات حصة كبيرة من الناتج المحلى الإجمالى فى المستقبل المنظور.
وعلاوة على ذلك، تعتبر المكاسب الرأسمالية الإضافية على الشقق المشتراة للاستثمار أمراً غير مضمونًا أيضًا وسط تراجع الطلب على المعروض فى قطاع العقارات المحاصر، ما يعطى المُلاك سببًا آخر للادخار بدلاً من الإنفاق.
هذا الأمر يوضح أن الصين ستواصل التميز كنموذج نادر لاقتصاد لم يقترن فيه ازدهار الإسكان – كما رأينا فى عقدى 2000 و2010 – بزيادة فى الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى.
الأصول المالية للأسر
تمثل الأسهم وصناديق الاستثمار الآن 58% من الأصول المالية للأسر، رغم أن اضطرابات السوق الحادة تُصعب على المستثمرين الأفراد تحقيق عوائد ثابتة.
جدير بالذكر أن إصلاحات كثيرة تجرى لإضفاء الطابع المهنى على أسواق رأس المال فى الصين، بما فيها تعزيز خيارات المحافظ الاستثمارية، رغم أن الأسر ربما لا تقتنع بها وبأن سوق الأسهم وسيلة آمنة طويلة الأجل لتنمية الثروة.
كذلك، تشكل الودائع النقدية والمصرفية 36% أخرى من الأصول المالية للأسر، وهذا أقل من 49% فى اليابان، لكنه أعلى بمرتين من الولايات المتحدة.
وعادةً ما تكسب الودائع المصرفية أقل من التضخم لأن السلطات تحتفظ بمعدلات إيداع منخفضة بشكل مصطنع للحفاظ على ربحية البنوك الحكومية وللحفاظ على إحدى السمات المميزة للنموذج الاقتصادى الصينى، وهو توجيه القروض المدعومة إلى المشاريع الاستثمارية التى تفضلها الدولة الحزبية.
وطالما أن أولويات الحزب الشيوعى تتفوق على قوى السوق فى تخصيص الائتمان، فربما يرتفع الدخل الاستثمارى للأسر بشكل هامشى فقط كحصة من الناتج المحلى الإجمالى فى أحسن الأحوال.
وفى الوقت نفسه، ستزداد التحويلات الحكومية للأسر الفقيرة على الأرجح باعتبارها وسيلة لزيادة الدخل والإنفاق حيث يسعى “شى” إلى تحقيق أجندة “الرخاء المشترك”.
وبينما تسهم مثل هذه التحويلات فى إعادة توزيع الموارد، فمن غير المرجح أن تؤدى إلى الارتفاع المستمر فى دخل الأسر ومستوى استهلاكها الذى يستهدفه صُناع السياسة.
وحتى يحدث ذلك، تحتاج الصين إلى معالجة مجموعة من العيوب الهيكلية الاقتصادية التى طال أمدها.
ومن هذا المنطلق، لا ينبغى للمستثمرين المراهنة على إنقاذ الأسر الصينية للاقتصاد، نظرًا لعدم وجود سبب لتوقع تصحيح جذرى للمسار الاقتصادى.







