فى الدول ذات الدخل المرتفع، وصلت أسعار المستهلكين لمستويات لم تحدث منذ 4 عقود، ولقد انقضى عهد الفائدة والتضخم المنخفضين عل الأقل حاليًا.
فلماذا حدث ذلك؟ وهل سيكون التغيير دائم؟ وكيف ستستجيب السياسة النقدية؟.
على مدار آخر عقدين، كان لبنك التسويات الدولية منظور مختلف عن معظم المؤسسات الدولية والبنوك المركزية الكبرى، خاصة أنه شدد على خطورة السياسة النقدية فائقة التيسير والديون المرتفعة والهشاشة المالية.
واتفق فى بعض الأجزاء مع ذلك التحليل، ولكن امتلك رأى مخالف فى أجزاء أخرى، لكن تحذيرات بنك التسويات الدولية التى لم يستمع لها أحد كانت دائمًا تستحق التفكير بها.
وهذه المرة أيضًا، تقرير البنك الاقتصادى السنوى يعطى تحليلا قيما بشأن بيئة الاقتصاد الكلى، ويلخص تجربة التضخم المرتفع التى عشناها مؤخرًا، والمرونة المفاجئة فى النشاط الاقتصادى، والعلامات الأولى على الضغوط فى النظام المالى.
ورصد التقرير أن الرؤية الأوسع تشير إلى أن التضخم سينقشع، لكن فى مقابل ذلك فإن معظم السلع التى يزيد استهلاكها عن 5% فى سلة أسعار المستهلكين أسعارها زادت على أساس سنوى بأكثر من 60% فى الدول ذات الدخل المرتفع، وأيضًا أن الدخول الحقيقية انخفضت بشكل كبير بعد حلقات التضخم الكبير.
ويشير التقرير إلى أنه سيكون من غير المعقول الظن أن الموظفين لن يحاولوا رفع رواتبهم خاصة أن سوق العمل مُحكمة.
ويمكن للعمال تعويض بعضا من تلك الخسائر، بدون أن تتسبب فواتير الأجور فى رفع الشركات لأسعار منتجاتها وبالتالى زيادة التضخم، إذا ما ضحت الشركات بالأرباح، لكن فى الاقتصادات المرنة، فإن الصراع على المكاسب هو الراجح.
وفى ظل الهشاشة المالية فى الوقت الحالى يصعب معايرة استجابة السياسات النقدية، فبحسب معهد التمويل الدولى، فإن نسب الدين العالمى للناتج المحلى كانت أعلى بنحو 17% فى بداية 2023، عما كانت عليه فى الأزمة العالمية فى 2008، ورغم الانخفاض بعد كورونا بمساعدة التضخم الذى دفع الناتج المحلى للارتفاع، فإن الفائدة المرتفعة بالفعل وأزمة المصارف تسببوا فى اضطرابات.
المزيد من الأزمات قد تحدث، مع تراكم الخسائر فى المؤسسات المنكشفة على العقارات ومخاطر آجال الاستحقاق وأسعار الفائدة.
ومع مرور الوقت ستعانى الأسر من تكاليف الاقتراض المرتفعة، كما أن البنوك التى يقل سعر أسهمها عن القيمة الدفترية سيكون صعب بالنسبة لها زيادة رأسمالها، كما أن وضع المؤسسات المالية غير المصرفية أقل وضوحًا.
ولم يكن ذلك المزيج من ضغوط التضخم والهشاشة المالية موجودًا فى السبعينات، وبسبب ذلك قال بنك التسويات الدولية إن الميل الأخير فى رحلة خفض التضخم قد يكون الأصعب، وهى ملاحظة تستحق الثناء، ليس فقط بسبب أهميتها الاقتصادية لكن السياسية أيضًا، فبطبيعة الحال لا يضيف بنك التسويات الدولية الشعبوية لقائمة الأشياء التى تؤرقه، لكنه يجب أن يضيفها.
الآن كيف وصنا إلى هذه الفوضى؟.. جميعنا يعرف صدمات العرض فى وقت كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، لكن بنك التسويات الدولية يرى أن المحفزات المالية والنقدية غير العادية التى تم إقرارها وقت الجائحة، كانت كبيرة جدا وواسعة جدا ودائمة جدا، وأنا اتفق فى ذلك الطرح، وأن الهشاشة المالية تراكمت مع الوقت فى ظل عقود الفائدة المنخفضة، لكن ما اختلف فيه، هل كان تجنب ذلك ممكنًا؟ أذكر أن بنك اليابان حاول فى أوائل التعسينات التخلى عن ذلك وكذلك فعل البنك المركزى الأوروبى فى 2011 لكن كلاهما فشل.
وهل ما نختبره الآن يثبت أن هناك تحول دائم فى بيئة السياسة النقدية أم تحول مؤقت، نحن فقط لا نعرف، لأن ذلك يعتمد على مدى مساهمة صدمات العرض فى التضخم، وأيضًا على دور المجتمعات غير المعتادة على التضخم المرتفع فى خفضه، وأيضًا إلى أى مدى أدى تفتت اقتصاد العالم فى خفض مرونة العرض.
وهل فعلًا عصر الفائدة المنخفضة بشدة قد انقضى؟، وإذا لم يكن كذلك فقد يكون هذا فى الواقع وضع عابر، وإذا كان قد انتهى، فإن الضغوط الكبيرة تنتظرنا، حيث أن ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية يجعل المستويات الحالية من المديونية من الصعب تحملها.
وأخيرًا ماذا يجب أن نفعل؟ بنك التسويات الدولية يؤمن بالديانة القديمة، ويجادل بأنه يجب وضع الكثير من الثقة فى السياسات المالية والنقدية والقليل فقط من الثقة فى السياسات الهيكلية، ولهذا فإنه يحث الاقتصادات على الخروج من ما أسماه “منطقة الاستقرار” والتى تكون فيها التوقعات وبينها توقعات التضخم تستقر بشكل ذاتى.
ولعل أكثر ما يلفت النظر هو تمييزه القيم لكيفية تصرف الناس فى بيئات التضخم المنخفضة والتضخم المرتفع.
ويرى البنك أن ما نعيشه الآن هو خطر الانتقال بشكل دائم من تضخم منخفض لتضخم مرتفع، وستكون التطورات خلال السنوات القليلة القادمة حاسمة، لهذا السبب يجب أن تكون البنوك المركزية شجاعة إلى حد ما.
غير أنى لست مقتنعًا بجميع مبادئ هذا الإيمان، إذ يجادل بنك التسويات الدولية، على سبيل المثال، بأنه كان ينبغى على صانعى السياسات أن يكونوا أكثر استرخاءً بشأن التضخم المنخفض باستمرار، لكن هذا كان من شأنه أن يزيد بشكل كبير من فرص عجز السياسة النقدية فى حالة الركود الحاد.
كما يجادل بأن استقرار الاقتصاد الكلى ليس بهذه الأهمية، لكنى أرى أن فترات الركود الطويلة والتضخم المرتفع لا يمكن تحمل كلاهما بالقدر نفسه، علاوة على ذلك، فإن بيئة الاقتصاد الكلى المستقرة تساعد على الأقل فى النمو، لأنها تجعل التخطيط من قبل الشركات أسهل بكثير.
وفوق كل شيء، مازلت غير مقتنع بأن الهدف المهيمن للسياسة النقدية يجب أن يكون الاستقرار المالى، كيف يمكن للمرء أن يجادل بأن الاقتصادات يجب أن تبقى ضعيفة بشكل دائم من أجل منع القطاع المالى من تفجيرها؟ إذا كان هذا هو الخطر، فلنستهدفه بشكل مباشر، ويجب أن نبدأ بإلغاء خصم الضرائب على الفوائد، وزيادة العقوبات على الأشخاص الذين يديرون المؤسسات المالية على أرض الواقع.
بقلم: مارتن وولف
معلق اقتصادى فى فاينانشيال تايمز
المصدر: فاينانشيال تايمز









