واشنطن وحلفاؤها تنظر إلى نيودلهي باعتبارها مصدرا بديلا جديرا بالثقة
يبدو أن سلاسل التوريد هي الفصل الأخير للعلاقات بين الهند والولايات المتحدة.
فقد قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في خطاب ألقاه خلال جلسة مشتركة مع الكونجرس الأمريكي الشهر الماضي: “عندما تعمل الهند والولايات المتحدة معًا في مجال أشباه الموصلات والمعادن المهمة، فإن ذلك يجعل سلاسل التوريد العالمية أكثر تنوعًا ومرونة وموثوقية”.
تشير الاتفاقيات المتعلقة بالدفاع والتقنيات الهامة التي وقعها مودي والرئيس الأمريكي جو بايدن، إضافة إلى استثمارات التجارة الإلكترونية التي وعدت بها “أمازون”، إلى كيفية نظر الولايات المتحدة إلى الهند باعتبارها مركزية لسلاسل التوريد الجديدة، ووضعها في الحسبان أثناء تحولها بعيدًا عن الصين.
وتشير الاستثمارات اللافتة للنظر مؤخرًا في الهند لإنتاج هاتف “أيفون 14” التابع لشركة “أبل” وسيارة السيدان الكهربائية الفاخرة من “مرسيدس-بنز”، إلى أن التشاؤم المتعلق بسلسلة التوريد في البلاد بدأ يتلاشى منذ الوباء، حسبما نقلت مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
وأوضحت المجلة أن جاذبية الهند الجديدة ترتبط بعوامل جيوسياسية واقتصادية، فهي هدف رئيس لمبادرة الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الذي أطلقته إدارة بايدن، إذ تسعى المبادرة جزئيًا إلى فصل سلاسل التوريد العالمية عن الصين وتعزيز مزيد من التوريد العالمي من اقتصادات الموردين الموثوقين.
يستعد الاقتصاد الهندي الكبير للاستفادة من هذا التطور، فهو واحد من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، مع قوة عاملة منخفضة التكلفة وقابلة للتدريب وطبقة متوسطة تضم ما يقدر بـ250 مليون مستهلك وانفتاح متزايد على التجارة والاستثمارات.
ثمة سيناريو مماثل جعل الصين مركزًا جذابًا لسلسلة التوريد بمرور الوقت، لكن سلاسل التوريد العالمية التي تتمحور حول الصين، والتي جلبت الرخاء إلى شرق آسيا، تتعطل الآن بسبب الصدمات العالمية المتعددة، بما فيها التوترات الجيوسياسية والتهديدات والكوارث المتعلقة بالطقس.
تؤكد البيانات الأخيرة لمنظمة التجارة العالمية المخاطر العالمية لسلاسل التوريد المركزة في الصين وهونج كونج، إذ انخفضت الصادرات السنوية القادمة من السوقين، اللذين يمثلان معًا 20% من الصادرات العالمية للسلع الوسيطة، بنسبة 15% و 27%، على التوالي، خلال الربع الأخير من 2022.
وانخفضت الشحنات القادمة من الولايات المتحدة، التي شكلت 8.1% من الصادرات العالمية للسلع الوسيطة، بنسبة 3%، فيما تراجعت شحنات اليابان، التي شكلت 4%، بنسبة 13%.
كما أن الانكماش الاقتصادي، بجانب ارتفاع تكاليف العمالة في الصين والحرب التجارية بين البلاد والولايات المتحدة، يجبر الشركات متعددة الجنسيات على إعادة التفكير في استراتيجياتها العالمية للتوريد.
لا شك أن تحويل سلاسل التوريد أمر مكلف، ولا تستطيع معظم الشركات متعددة الجنسيات تحمل تكاليف نقل الإنتاج بالجملة من الصين، لكن اعتبارات الربحية تؤثر على اتجاه نقل الإنتاج إما إلى الدول الصديقة أو العودة إلى الولايات المتحدة.
جذبت منطقة جنوب شرق آسيا الشركات الأجنبية بأجورها الرخيصة وحوافزها المالية وخدماتها اللوجستية المحسنة، وقد كانت فيتنام وتايلاند أكبر الفائزين في تحويل سلسلة التوريد من الهند حتى الآن.
لكن بمرور الوقت، يمكن للهند أيضًا أن تصبح مركزًا صناعيًا مكملاً للصين من خلال جني مكاسب من عمليات نقل التكنولوجيا الأجنبية وخلق وظائف ذات قيمة مضافة، خصوصاً أن قطاعات التصنيع في الهند مثل السيارات والأدوية وتجميع الإلكترونيات متطورة بالفعل وستبرز على الأرجح من الفائزين في هذا السباق.
صنفت منظمة التجارة العالمية الهند باعتبارها خامس أكبر مستورد للسلع الوسيطة في العالم خلال الربع الرابع من 2022 بحصة قدرها 5%.
كما أن الهند سترفع على الأرجح حصتها البالغة 1.5% من الصادرات العالمية من السلع الوسيطة خلال الأعوام المقبلة.
يمكن أن يكون قطاع الخدمات في الهند هو الفائز أيضًا، بما فيه الشركات العاملة فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات المالية والمهنية والنقل والخدمات اللوجستية.
في الوقت نفسه، يمكن للهند تعلم كثير من تجربة الصين.
أولاً: يعتبر تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر الموجه للتصدير عاملاً أساسياً للمشاركة في سلاسل التوريد، إذ يفرض الموقف التدريجي لتحرير التجارة الحفاظ على سياسة الباب المفتوح تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر في التصنيع وتيسير الاستثمار على مستوى عالٍ، مع حوافز مالية تنافسية وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة حديثة كشراكات بين القطاعين العام والخاص.
وسيكون من الضروري الحد من المتاعب التي تواجهها الأعمال التجارية من خلال رقمنة الضرائب والجمارك وإدارة الأعمال وصفقات التجارة الحرة عالية الجودة.
ثانيًا: تحتاج الشركات المحلية إلى استراتيجيات عمل ذكية للانضمام إلى سلاسل التوريد العالمية، إذ تتمتع الشركات الكبرى بطبيعة الحال بمزايا في سلاسل التوريد نظرًا لنطاق الإنتاج الأكبر والوصول الأفضل إلى التكنولوجيا الأجنبية، والقدرة على إنفاق المزيد على التسويق.
يمكن للتكتلات دعم الاستثمارات والتكاليف الأخرى بين وحدات الأعمال، لذلك يجب أن تعمل الشركات الصغيرة والمتوسطة كموردين صناعيين ومقاولين من الباطن لكبار المصدرين.
ومن ثم، فإن استراتيجيات الأعمال مثل عمليات الدمج والاستحواذ والتحالفات مع الشركات متعددة الجنسيات وبيوت الأعمال المحلية الكبيرة كلها ذات مناهج منطقية في الهند، وكذلك الاستثمار في القدرات التكنولوجية المحلية لتحقيق المعايير الدولية للسعر والجودة والتسليم.
ثالثًا: لا تزال السياسة الصناعية تشكل مجالاً مثيرًا للجدل، ويجب توخي الحذر قبل محاولات الهند لنسخ نموذج التدخل الحكومي الصيني بالجملة، خصوصاً أن هناك خطرا كبيرا من فشل الحكومة والمحسوبية، وقد يكون من الحكمة المشاركة بنشاط مع مراكز الفكر لاكتساب نظرة ثاقبة لما قد ينجح.
ومع ذلك، قد تكون بعض جوانب السياسة الصناعية الصينية ذات صلة بالهند، بما فيها تحقيق استهداف أفضل للشركات متعددة الجنسيات في الأنشطة الصناعية الجديدة التي قد تكون فيها ميزة نسبية محتملة وتنسيق أفضل بين الحكومة المركزية وإدارات الدولة.
ويأتي الاستثمار الأولي في التعليم العالي في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بنفس القدر من الأهمية.
أخيرًا، يجب على الهند تعزيز سلاسل التوريد الإقليمية مع جيرانها من خلال توسيع نطاق برنامج “صُنع في الهند” إلى “صُنع في جنوب آسيا”.
ويمكن للهند تقديم حوافز ضريبية للمصنعين الهنود للانتشار في بنجلاديش وسريلانكا، وربا تكون معالجة الأغذية والمنسوجات والملابس وقطاع السيارات مرشحين لذلك نظرًا لخصائص جيران الهند وخبراتهم الصناعية.
يجب على الهند إعطاء الأولوية لاتفاقية تجارة حرة شاملة مع بنجلاديش وتحديث اتفاقيتها الحالية مع سريلانكا، وذلك لدعم التجارة والاستثمارات المستندة إلى القواعد الإقليمية.
ما لم تنشئ الهند قنوات لجنوب آسيا، فلن يكون لديها عرض للجنوب العالمي، علمًا بأن سلاسل التوريد الجديدة المفتوحة مع الولايات المتحدة تعد مكانًا جيدًا للهند لبدء رحلة التكامل العالمي.