«تعانى مصر من جمود الفكر، وضبابية المشهد منذ سنوات.. ما أنتج شعورًا بالإحباط لدى أجيال شابة لا تعرف إلى أين تسير.. ولا تشعر بتفاؤل تجاه المستقبل.. وأسهم فى ذلك أنه ليس لدينا ـ حتى الآن ـ خارطة طريق واضحة تحدد لنا أين سنكون بعد عشرين عامًا وبعد خمسين عامًا.. لذا فنحن لا نعرف كيف ستكون معيشة الأجيال التالية، والتى تليها».
بهذه المقدمة طرح الدكتور هانى سرى الدين، رئيس لجنة الشئون المالية والاقتصادية بمجلس الشيوخ، القيادى البارز بحزب الوفد أفكاره من خلال الكتاب الذى أصدره، مؤخرًا، بعنوان «إصلاح مصر بين الاقتصاد والسياسة».
وقد وضع الدكتور «سرى الدين» يده كالطبيب الذى شخَّص الحالة المرضية لبلد مثل مصر.. حدَّد الأمراض التى تعانى منها البلاد، وطرحها بالمختصر المفيد، ودون أن يستغرق فى تفاصيل الحلول التى باتت معروفة للقاصى والدانى.. فهو يرى أنه لا إصلاح اقتصاديًا دون إصلاح سياسى؛ إذ إنَّ الاثنين وجهان لعملة واحدة، ولأنه يرى صعوبة الإصلاحات السياسة، والوصول إلى مناخ ديمقراطى حقيقى فى مصر فإنَّه عدَّد بعض الأمثلة لدول انتهجت الإصلاح الاقتصادى دون إصلاح سياسى، وما حدث فيها، وأخرى طبقت الاثنين فكانت المزايا المجتمعية أوسع وأفضل.. ولكنه بأفكار حزب الوفد أكد أن الموازنة بين الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبين الإصلاح السياسى من جهة أخرى ضرورة مُلحة.
وفى طرحه للممارسة السياسية الحالية فى مصر، تشعر أنك تسمع أو تقرأ للوفديين العظماء مثل الدكتور محمود أباظة، ومنير فخرى عبدالنور.. فهو يرى أن المشهد السياسى الحالى يواجه إشكالية حقيقية تتمثل فى غياب الممارسة السياسية الطبيعية للمواطنين عبر منصات الممارسة التقليدية وهى الأحزاب.
تلك الإشكالية قد تتيح فرصًا لدى قوى الإرهاب لاصطياد كثير من الشباب الذى لديه طاقة والباحث عن ممارسة سياسية حقيقية وصحية.. ويرى أنَّ الدولة مسئولة عن ذلك من خلال نظرتها للأحزاب على أنها كيانات تكميلية شكلية، مهمتها المساندة والتأييد فقط.
وفى الوقت نفسه، وجَّه اللوم للأحزاب لعدم تواجدها فى الشارع وبين الناس، وفى طرحها حلولًا بشأن القضايا التى تحتاج إلى مناقشات وإصلاحات.. وللأسف كان هذا ما يفعله حزب الوفد قديمًا من خلال لجانه النوعية.. فأين هى الآن؟! وباعتباره مفكرًا اقتصاديًا كان للاقتصاد أطروحات كثيرة فى الكتاب، فهو يرى أنَّ مصر فى حاجة لتحقيق تنمية شاملة، لا أن نركز على تحقيق معدلات نمو مرتفعة.. والقطاع الخاص هو شريك للدولة، وليس خصمًا لها، وأن الدولة مطالبة بمساندته ليس من أجل عيون رجال الأعمال، وإنما دعمه ـ القطاع الخاص ـ هو دعم للفقراء ومحدودى الدخل من خلال دفع سياسات التشغيل، ورفع مستوى المعيشة.
ونتساءل عن كيف نكتب قصة نجاح للصناعة فى ظل المشكلات التى تعانى منها، ويرى أنه من الضرورى إجراء حوار شامل مع القطاع الخاص بشأن كيفية النهوض بالصناعة.. كذلك الأمر بالنسبة للاستثمار والتصدير كلها تحتاج إلى خارطة طريق واضحة.
وفى تصوره فإنَّ الدولة حققت معجزة بكل المقاييس فيما أنجزته من مشروعات «أنقذت الاقتصاد» كما يقول.. ولكنه لم تتطرق إلى فقه الأولويات فى تنفيذ هذه المشروعات ولا إلى الديون التى أثقلت كاهل الاقتصاد القومى؛ نتيجة غياب رؤية حقيقية لجدوى وأولوية تنفيذ هذه المشروعات.. وبالرغم من اعترافه بأن مصر تواجه أزمة اقتصادية حادة شديدة الوطأة ـ كما يصفها ـ وقد تكون غير مسبوقة فى السنوات الاخيرة، فإنه يرفض التهويل من تبعات الأزمة بإفلاس البلاد أو رغبات الهجرة، ويحذر من شيوع الارتباك بين بعض المسئولين والذى قد يؤدى لاتخاذ قرارات متسرعة خاطئة.
وفى تعليقه على سياسات بيع الأصول تجده يأخذ ذات الفكر الذى تنتهجه الحكومة، فى أنَّ ذلك تشجيع للاستثمار، ويزيد من ثقة المستثمرين الأجانب بالاقتصاد.. وكأن ذلك هو الأفضل وليس الاستثمار المباشر بخلق وبناء كيانات جديدة تضيف للاقتصاد القومى، وتوفر مزيدًا من فرص العمل، لا أن يشترى مستثمر حصة فى شركة أو نسبة من رأسمالها.. فهل هذا ما تحتاجه مصر من استثمار؟!.
لقد تطرق الدكتور هانى سرى الدين إلى كثير من القضايا فى كتابه سواء فى التعليم، أو فى تجديد الخطاب الدينى، والشباب، وسد النهضة، ونهب الآثار، ومجد المحكمة الدستورية، حتى إنه لم ينسَ أن يشكر رجال العدالة.
كل هذه القضايا والأفكار ودعوته بأن يكون الحوار الوطنى حوارًا دائمًا وليس طارئًا.. يجعلنا ننتظر منه أولًا ان يبادر من خلال دوره القيادى فى حزب الوفد بأن نرى فى هذا الحزب رؤى وأطروحات وحلولًا لكل هذه القضايا التى طرحها الكتاب.. وفى الوفد من شخصيات وقامات تستطيع أن تناقش وأن تطرح حلولًا لا أن تكون فقط مساندة ومؤيدة للدولة على طول الخط.