ثمة أمر غريب طرأ من جديد فى العلاقة بين أسواق المال والاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، إذ طفا على السطح خلاف بشأن مصير أسعار الفائدة خلال 2024.
فكلما تجاهل المستثمرون الإشارات المبعوثة من أكثر البنوك المركزية تأثيرًا ، وجدوا أنفسهم على الطرف الخاسر فى ذلك الجدال.. وكلما طال أمد تلك الظاهرة ، تعقدت الأمور أكثر.
لقد بات الموقف واضحا من المقدمات التى سبقت فترة الصمت للمسؤولين والتى ستستمر حتى 13 ديسمبر مع انتهاء اجتماع الفيدرالى الأمريكى، إذ وجهت الإماءات المتشددة التى استنتجتها أسواق المال من خطابات أعضاء الفيدرالي، الأنظار إلى خطاب محافظ الفيدرالي المرتقب عقب الاجتماع، ليروا ما إذا كانت ستدفع ضد توقعات خفض الفائدة فى وقت مبكر من 2024.
وحاول من قبل “باول” فعل ذلك من خلال تأكدين له، الأول أنه من غير الناضج القفز لاستنتاج أن مستويات التشديد النقدى باتت كافية أو التكهن بموعد التيسير النقدى.
كما ذكًر الأسواق أنه وزملائه فى لجنة تسعير الفائدة ، مستعدون لتشديد السياسة النقدية إذا ما اقتضى الأمر ذلك.. لكن قياسًا على ردة فعل الأسواق، لم تكن محاولاته تلك ناجحة.
وكان المرء يتوقع أن تؤدى محاولات “باول” إلى عكس حركة العائد على السندات اللافتة للنظر، إذ انخفض العائد بأكثر من 0.6% للسندات آجل 10 سنوات، وأكثر من 0.4% للسندات آجل عامين ذات الحساسية العالية للفائدة.
لكن ماحدث عشية خطاب “باول”، هو أن العائد انخفض بنسبة 0.1% إضافية، ما يعكس تسعير السوق لخفض الفائدة 5 مرات خلال 2024، مع احتمالية كبيرة أن يكون أول خفض فى مارس.
وما يضيف للغرابة أن هذه ليست المرة الأولى التى تتحدى فيها الأسواق رؤية “الفيدرالي” بقيادة “باول” بشأن مستقبل السياسات النقدية. فقبل عام فى سيناريو مكرر سعًر السوق تخفيضات للفائدة خلال 2023 والتى لم تتحقق أبدًا، ونتيجة لذلك شهدت سندات الحكومة عامًا متقلبًا حتى نوفمبر 2022 الذى ارتفعت فيه العوائد بشكل كبير.
ومن مواضع الغرابة أيضًا أن انحراف الأسواق عن الإشارات التى يرسلها “الفيدرالي” يدفعه لتبنى مسار مدمر لهم، لأن اندفاع الأسواق نحو تسعير خفض الفائدة فإن ذلك يؤدى لتيسير الأوضاع المالية ويرفع مخاوف الفيدرالي بشأن الضغوط التضخمية بما يؤخر خفض الفائدة الذي تراهن عليه الأسواق.
وبحسب مؤشر “جولدمان ساكس” فإن نوفمبر من أكثر الشهور التى شهدت تيسيرا فى الأوضاع المالية.
أما بالنسبة للسبب، فقد تكون أسواق المال على استعداد للمخاطرة بضربة أخرى من بنك الاحتياطي الفيدرالي لأنها أكثر قلقًا بشأن الركود المحتمل عام 2024، وهذا ما تعكسه التطورات في أسعار الذهب والنفط ولكنه يبدو غير متسق مع ارتفاع أسعار الأسهم.
كما أن الأسواق ربما ترى أن “الفيدرالي” يستهدف أن يصل بالتضخم إلى 2% على المدى المتوسط، لكنه قد يكون متسامحا مع ارتفاع الرقم قليلًا عن المستهدف عند 3%.
ويتوافق هذا مع فكرة مفادها أن الاقتصاد العالمى، بعد أن واجه نقص الطلب في العقد الماضى، دخل فترة متعددة السنوات من المرونة الأقل على جانب العرض، وعوامل مثل انتقال الطاقة، وتفتت العولمة، واعتماد الشركات على سلاسل التوريد المرنة وأسواق العمل الأقل قدرة على التكيف تساهم فى مثل هذا التحول.
والسعي إلى تحقيق هدف تضخم منخفض للغاية في هذه البيئة من شأنه أن يؤدي إلى تضحيات غير ضرورية في النمو وسبل العيش، فضلاً عن اتساع مستوى عدم العدالة.
وثمة سبب ثالث للأسواق يرتكز على خسارة بنك الاحتياطي الفيدرالي لمصداقيته، ويرجع ذلك إلى خطأه فى تصنيف التضخم، وتأخر تدابير السياسة النقدية، والهفوات الإشرافية، وضعف الاتصال، وأخطاء التنبؤ المتكررة، والتساؤلات حول تداول بعض المسؤولين، وضعف المساءلة.
واستناداً إلى إجماع السوق بشأن توقعات الاقتصاد ومستويات تقييمات الأسهم، فمن الممكن أن تظل أسعار الفائدة دون تغيير لفترة أطول مما تشير إليه سوق العقود الآجلة حالياً.
ولتجنب انتكاسة محتملة أخرى، يجب على المستثمرين إما الاستعداد لاحتمال ارتفاع الفائدة فى 2024 أو تعديل تقييمات الأسهم وفقًا لذلك.