فى ظاهر الأمر تبدو كمفارقة،
فخلال أكتوبر كانت الأسواق غارقة فى التشاؤم، لأن التضخم ظل مرتفعًا بشكل عنيد، وكان المستثمرون يخشون أن البنوك المركزية قد تبقي أسعار الفائدة أعلى لفترة أطول.
وبحلول ديسمبر، استحوذت النشوة على الأسواق بفضل التصريحات التي بدت متساهلة بشأن أسعار الفائدة من قبل رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، والتى بدا كأنه يلمح بتخفيضات مبكرة للفائدة عما كان متوقعًا فى السابق، والآن في شهر يناير، حققت أسواق الأسهم بداية صاخبة لهذا العام.
إن دليلنا لفهم هذه التقلبات الشديدة فى الثقة يكمن فى آليات السياسة النقدية المعتمدة على البيانات، التى تدفع المستثمرين إلى مراجعة وإعادة تنقيح استراتيجياتهم إلى ما لا نهاية بناءً على التحليل المكثف لخطاب البنوك المركزية وعلى التوقعات حول كيفية تأثير البيانات على تحديد أسعار الفائدة من قبل محافظي البنوك المركزية.
وفى ظل ذلك الإطار الهش والمتخلف للسياسات، أصبحت النزعة قصيرة المدى مستوطنة، ويكمن الخطر فى أن الأسواق تتجاهل الأساسيات طويلة المدى، وستكون هذه المخاطر مرتفعة بشكل خاص فى عام 2024، الذي سيشهد انعكاسات مستمرة في الاتجاهات الاقتصادية طويلة الأمد.
ورغم الافتراضات المبهجة التى تبنتها الأسواق مؤخراً بشأن تراجع التضخم، فمن المؤكد أن العصر الذي طال أمده من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية قد انتهى. نعم، ستنخفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل فى عام 2024 مع استمرار انخفاض التضخم، ولكن على المدى الطويل مسألة أخرى.
كبداية، فإن التزام البنوك المركزية بتقليص ميزانياتها العمومية بعد الفترة الطويلة من التيسير الكمى يعني أنها ستسحب قوتها الشرائية من الأسواق، فى الوقت الذى وصلت فيه احتياجات الاقتراض الحكومى إلى مستويات الذروة.
وتعد صدمات جانب العرض للاقتصاد العالمى هى أكبر تهديد لوجهة النظر مفرطة التفاؤل حول مجانية تمويل الحكومات، التى نشأت من رحم الفائدة الحقيقية التى لاتذكر منذ الأزمة المالية العالمية.
والأمر الأكثر أهمية هو تأثير صعود الصين وغيرها من الأسواق الناشئة على سوق العمل العالمية.
وأدى ذلك إلى تخمة العمالة التي أدت إلى انخفاض الأجور في العالم المتقدم، وتمثلت إحدى النتائج في انخفاض الاستثمار مع قيام الشركات باستبدال رأس المال بالعمالة، وهو ما يساعد في تفسير سجل الإنتاجية الكئيب منذ الأزمة.
وكان السبب الآخر هو التضخم الهادئ، الذى نسب إليه محافظو البنوك المركزية الفضل بسهولة.
قوة العمل العالمية تتقلص الآن، فمنذ الجائحة، زادت القدرة التفاوضية للعمال، وستزداد أكثر مع استمرار تقلص القوى العاملة في البلدان المتقدمة التي تعاني من الشيخوخة السكانية، وكذلك في الصين وكوريا. والآن يعمل الارتفاع الكبير في الأجور على تشجيع الشركات على الاستعاضة عن رأس المال بعمالة أكثر تكلفة.
ويجري الآن التخلص من التأثيرات الحميدة اقتصاديا الأخرى للعولمة، مثل سلاسل التوريد عبر الحدود، في مواجهة الخلافات الجيوسياسية. وهذا يجلب المرونة على حساب الكفاءة الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، فإن الحمائية آخذة في الارتفاع، وكل هذه أخبار كئيبة بالنسبة للنمو.
ويقول كينيث روجوف، من جامعة هارفارد، إنه حتى لو انخفض التضخم فمن المرجح أن يظل أعلى خلال العقد المقبل ما كان عليه في العقد الذي أعقب الأزمة المالية.
ويستشهد بعوامل تشمل ارتفاع مستويات الديون، وزيادة الإنفاق الدفاعى، والتحول الأخضر، والمطالبات الشعبوية بإعادة توزيع الدخل، ومن الصعب ضحد هذه الحجج، رغم وجود سؤال مفتوح حول المدى الذي قد تتمكن فيه تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي من تعويض هذه الضغوط التضخمية.
ولا نتوقع من الصين أن تهب للإنقاذ سواء على جبهة النمو أو التضخم كما فعلت بعد الأزمة المالية.
ويواجه نموذج النمو السابق الذي كانت تعتمده الصين، والذي كان مدفوعاً إلى حد كبير بسوق العقارات، تحديات بنيوية الآن، ومن المتوقع أن تستورد الصين من الآن فصاعداً كميات أقل.
إن أحد التأثيرات الأكثر عمقاً الناجمة عن تغير السياسة النقدية المفرطة فى التساهل تؤثر على ربحية قطاع الشركات وتمويله في البلدان المتقدمة.
وتظهر دراسة أجراها مايكل سموليانسكى من بنك الاحتياطي الفيدرالي أن انخفاض نفقات الفائدة ومعدلات الضرائب على الشركات يفسر أكثر من 40% من النمو الحقيقي في أرباح الشركات من عام 1989 إلى عام 2019 للشركات غير المالية المدرجة على مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
وهذا رقم كبير ملفت للنظر، وستكون الصورة مماثلة في جميع أنحاء العالم المتقدم. وفي ظل المأزق المالي الذي نعيشه اليوم، أصبح نطاق المزيد من التخفيضات الضريبية على الشركات ضئيلا للغاية، ولن تعود أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر.
لذا، استعدوا لتباطؤ طويل المدى في نمو أرباح الشركات وعوائد الأسهم.
بعد هذه الانتكاسات الكبيرة، سيتضمن الوضع الطبيعي الجديد للمستثمرين مشهدًا نقديًا صعبًا للغاية مع تقلبات متزايدة وارتفاع عوائد السندات الطويلة لأعلى مما كانت عليه في السنوات الأخيرة.
وعلى خلفية الدين العام المتنامي، تساهم أسعار الفائدة الرسمية الصارمة الآن في ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي إلى حد غير مريح.
وبالتالي فإن الضغوط السياسية على البنوك المركزية قد تشتد، وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع أسعار الفائدة وعوائد السندات في النظام النقدي الذي لم يعد شديد التيسير سوف يفرض ضغوطاً مستمرة على النظام المالى، وقد يجعل أهداف البنوك المركزية المتمثلة في السيطرة على التضخم والاستقرار المالى تتعارض.