تواجه دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تحديات اقتصادية معقدة، ومع أن البعض من تلك الدول تتمتع بآفاق نمو قوية، إلا أن التضخم وضغوط أسعار الصرف الأجنبى والافتقار إلى البنية التحتية لأسواق رأس المال فيها من الممكن أن يؤدى إلى إحداث اضطراب فى المشهد الاقتصادي.
وفى هذا السياق، بمقدور المؤسسات المالية أن تلعب دور المحفّز لدفع عجلة التنمية، سواء من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية، أو دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، أو تشجيع الاستثمار فى القطاعات التى تعتبر أساسية وحيوية للنمو الاقتصادي،
ومع ذلك، يجب على المؤسسات المالية أن تضع نصب أعينها، قبل كل شيء، مواجهة التحديات التى تؤثر على بعض الاقتصادات الكبرى ومعالجتها.
أهمية إدراك أبعاد التحديات الاقتصادية:
يعتبر التضخم احد التحديات الكبيرة للعديد من دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وفى حين أن صندوق النقد الدولى يتوقع نمواً فى الناتج المحلى الإجمالى فى المنطقة بنسبة 4.0% فى العام المقبل، بارتفاع ملحوظ عن النسبة التى توقعها الصندوق لعام 2023، والتى بلغت 3.3%، إلا أن ارتفاع التضخم قد يعيق هذا النمو فى حال لم تتم السيطرة عليه. على سبيل المثال، يبلغ متوسط توقعات النمو فى نيجيريا، التى تعد أكبر اقتصاد فى المنطقة، 3.4% بحلول عام 2025 ومع ذلك، فقد
بلغ معدل التضخم 26.72% فى الربع الثالث من عام 2023، وهو الأعلى منذ عام 2003، ولذلك يخشى الخبراء الاقتصاديون من استمرار التضخم لعدة أشهر قادمة خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض قيمة النيرة النيجيرية.
كما تعانى غانا، التى تشتهر باقتصادها النشط، من ارتفاع التضخم، حيث بلغ التضخم السنوى 43.1% فى يونيو 2023، ويعود السبب الرئيسى فى ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وانخفض هذا الرقم إلى أدنى مستوى له فى 14 شهراً ليصل إلى 35.2% فى أكتوبر، لكن العديد من الاقتصاديين يتوقعون المزيد من الضغوط الناتجة عن التضخم فى العام المقبل. فى إثيوبيا، ارتفع التضخم السنوى إلى 28% فى أواخر عام 2023. وعلى الرغم من أن بعض الاقتصاديين يتوقعون انخفاض هذا المعدل خلال العام المقبل، إلا أن استمرار انخفاض قيمة البير الإثيوبي، إلى جانب العجز التجارى المتزايد ونقص سلسلة التوريد، قد يؤدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
أما التحدى الاقتصادى الثانى والرئيسى فى دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فيتمثل فى الوصول إلى الخدمات المالية، ونتيجة للتقدم المحرز حتى الآن، فإن أكثر من نصف الأفراد فى المنطقة يحظون بإمكانية الوصول إلى الحسابات المصرفية، على الرغم من أن هذه النسبة لاتزال أقل من المتوسط العالمي. وبالإضافة إلى ذلك، أدى تباطؤ وتيرة تحديث البنية التحتية وتطويرها إلى أن نسبة انتشار النطاق العريض المتنقل لا تتجاوز 25% فقط.
وقد أدى انخفاض مستوى توافر الخدمة، وضعف البنية التحتية للكهرباء وخطط البيانات باهظة الثمن إلى الحدّ من الوصول إلى الخدمات المصرفية الرقمية. ومع ذلك، فإن بلداناً مثل غانا ونيجيريا تعانى أيضاً من تفاوتات كبيرة بين الجنسين، بما فى ذلك الافتقار إلى المعرفة المالية وانتشار الثقافة التى تشجع على الاعتماد مالياً على الرجال.
يلعب الشمول المالى دوراً رئيسياً فى الاستقرار والنمو الاقتصادي. كما أنه يساعد على زيادة الادخار وتأسيس الشركات وتوسيع نطاق الأعمال التجارية، وزيادة فرص التجارة الدولية، وتعزيز الاستثمار الأجنبي، مما يشكل قوة دافعة لتحسين وانتعاش الاقتصاد.
أهمية الحاجة إلى توفر أسواق رأس المال القوية والأنظمة المالية الراسخة
تزامناً مع سعى دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى معالجة التضخم وتحسين الإيرادات وتعزيز الشمول المالي، يكتسب نمو أسواق رأس المال وإدارة مخاطر أسعار الصرف الأجنبى أهمية جديدة بالنسبة لها. كما أن الوصول المفتوح إلى أسواق رأس المال سيؤدى إلى توظيف فائض الوفورات فى استثمارات طويلة الأجل، مما يشجع على تحفيز النمو الاقتصادي.
وفى حين أن بعض الاقتصادات فى المنطقة لم تلتزم بعد بفتح أسواق رأس المال، إلا أن بعض البلدان الأخرى ذات الاقتصادات الكبيرة مثل نيجيريا، لديها أسواق رأس مال قوية من المتوقع أن تُدر أرباحاً هائلة.
وقد افتتحت أنغولا، التى تحاول أن تصبح واحدة من أكبر خمسة اقتصادات فى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مؤخراً سوقاً للأوراق المالية بعد أكثر من عقد من التأخير والانتكاسات. وفى الوقت نفسه، أظهرت بعض التقارير بأن سوق الأوراق المالية فى كينيا قد تكبّدت خسائر فادحة على مستوى العالم فى أكتوبر 2023.
وانتشرت عمليات البيع على نطاق واسع بسبب تململ المستثمرين الناجم عن القروض المصرفية المتعثّرة، وارتفاع فواتير استيراد الطاقة والمواد الغذائية، وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي.
يعتبر تعزيز الأنظمة المالية أمراً بالغ الأهمية للاقتصادات الناشئة عندما يتعلق الأمر بتوسيع التجارة العالمية من خلال أسواق رأس المال، لأن أسواق رأس المال المتطورة المدعومة بتدابير اقتصادية تعمل على التخفيف من مخاوف المستثمرين، وتجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية التى يمكن توجيهها إلى قطاعات مختلفة من الاقتصاد، مثل تطوير البنية التحتية والزراعة والتصنيع والتكنولوجيا. ومن شأن تدفق رأس المال هذا أن يؤدى إلى خلق فرص عمل جديدة ودعم الأفراد فى تكوين الثروة، مما يؤدى فى نهاية المطاف إلى الحد من الفقر.
الدور المحورى للمؤسسات المالية:
تلعب المؤسسات المالية دوراً حاسماً فى دفع عجلة الازدهار الاقتصادى فى دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من خلال إتاحة إمكانية الوصول إلى رأس المال السهمي، وترتيب تمويل الديون ومساعدة الشركات على حشد الأموال اللازمة للنمو من خلال عمليات الطرح للاكتتاب العام. ولذلك، فقد أصبح من المهم الآن، أكثر من أى وقت مضى، أن تستخدم البنوك الحلول التقنية للتخفيف من الأعباء التشغيلية وتوفير رؤى دقيقة للسوق.
على سبيل المثال، يمكن للمؤسسات استخدام تطبيقات التحليلات لتحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة لتقييم مخاطر الائتمان والسوق والمخاطر التشغيلية بدقة أكبر. ويمكنها أيضاً استخدام تطبيقات التكنولوجيا الرائدة فى القطاع لتحسين مراكزها فى ظل القيود التنظيمية المتعددة وقياس ومراقبة مخاطر السيولة ومخاطر أسعار الفائدة ومخاطر الصرف الأجنبي، بالإضافة إلى ذلك، يعمل حل إدارة الخزينة القوى أيضاً على تقليل الجهد اليدوى بشكل كبير عبر أتمتة سير العمل، مما يساهم إلى حد كبير فى تحسين عملية صنع القرار.
تعتبر التوقعات الاقتصادية لدول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى واعدة، حيث تستعد العديد من الدول لتحقيق نمو قوى فى عام 2024 وما بعده، ومع ذلك، فإن وجود أنظمة مالية قوية، وبيئة أعمال مفتوحة، وأسواق رأس المال التى تتسم بالأداء الجيد، تُشكّل مجتمعة عوامل مهمة لضمان النجاح. وللاضطلاع بدورها، يجب أن تستخدم المؤسسات المالية أحدث التقنيات الرائدة لتبسيط العمليات وتعزيزها وإدارة المخاطر، مع توفير الدعم الذى تحتاجه الشركات لتمكينها من تحقيق التقدم والازدهار.
وفى حال استمرار دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فى التطور والتغلب على التحديات الإقليمية، فإن التآزر بين السياسات الاقتصادية ودعم الشمول المالى وتطوير أسواق رأس المال القوية سيكون له دور فعال فى تشكيل مستقبل مشرق للمنطقة برمّتها.
انتهى