آسيا تستحوذ على 90% من الإنتاج المتطور مقابل 44% حققتها القارة العجوز فى التسعينيات
ظهرت مدينة دريسدن فى قلب صناعة الرقائق الإلكترونية الأوروبية لأكثر من ثلاثة عقود.
ففى عام 1996، استولت شركة «أدفانسد مايكرو ديفايسز» الأمريكية على أراضٍ زراعية فى المدينة الألمانية الشرقية، المعروفة بهندستها المعمارية الباروكية والملقبة بـ«فلورنسا المطلة على نهر الإلبه»، لبناء غرفة مترامية الأطراف لإنتاج رقائق المعالجات لأجهزة الكمبيوتر.
وبعد عقد ونصف العقد تقريباً، اشترت شركة أمريكية أخرى تدعى «جلوبال فاوندريز» المنشأة وحولتها إلى مورد رئيسى لمطورى الرقائق العالميين، ومن ثم أصبحت أكبر منشأة لتصنيع الرقائق فى أوروبا.
وتأتى شركة صناعة الرقائق الألمانية «إنفينيون»، التى تشيد مصنعاً بقيمة 5 مليارات يورو (5.33 مليار دولار)، ضمن الشركات التى تنتقل إلى المنطقة أو تتوسع فيها، بجانب المورد الرئيسى للسيارات «روبرت بوش»، الذى ينفق 3 مليارات يورو لتوسيع مصانعه هناك وفى أماكن أخرى فى ألمانيا.
وتعتبر شركة «تايوان لتصنيع أشباه الموصلات» ضمن الوافدين الجدد أيضاً، إذ يخطط أكبر صانع للرقائق فى العالم لبدء تشييد منشأة للرقائق بقيمة 10 مليارات يورو فى نهاية العام، وهى الأولى له فى أوروبا، حسب ما نقلته مجلة «نيكاى آسيان ريفيو» اليابانية.
كذلك، تدرس «جلوبال فاوندريز» أيضاً توسيع منشأتها بالمدينة مقابل عدة مليارات يورو.
هذا الاندفاع للتوسع يزيد الآمال فى أن تصبح أوروبا لاعباً رئيسياً فى أشباه الموصلات المتقدمة، وهى مكونات حيوية تشغل أشياء مثل الهواتف الذكية والطائرات المقاتلة.
لكنَّ الخبراء المخضرمين فى الصناعة المحلية يتساءلون عما إذا كانت الزيادة المفاجئة فى الاستثمار والدعم الحكومى الأخير ستؤتى ثمارها.
وتشير جمعية صناعة أشباه الموصلات الأوروبية إلى أن حصة الاتحاد الأوروبى من الطاقة الإنتاجية العالمية للرقائق تبلغ نحو 8%، بعد أن كانت تتجاوز 10% فى التسعينيات.
وفى مجال الرقائق المتقدمة، كانت أوروبا فى التسعينيات تقود العالم، إذ كانت تمثل 44% من الإنتاج، وفقاً لبيانات مجموعة بوسطن الاستشارية، وانتهت هذه الهيمنة منذ فترة طويلة؛ حيث تمثل آسيا الآن أكثر من 90% من الإنتاج المتطور.
كانت ثمة محاولات لإعادة تشغيل صناعة الرقائق فى الاتحاد الأوروبى.
ففى 2013، قادت نيلى كروس، نائبة رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، استراتيجية صناعية للإلكترونيات تهدف إلى مضاعفة إنتاج أشباه الموصلات فى الكتلة.
ولم تحقق المبادرة سوى نجاح محدود؛ نظراً إلى حزمة الحوافز الصغيرة نسبياً البالغة قيمتها 10 مليارات يورو والافتقار إلى الوعى العام.
والآن، فى أعقاب الاضطرابات الكبيرة التى شهدتها سلسلة التوريد فى عصر كوفيد، يحاول الاتحاد الأوروبى مجدداً إحياء تلك الصناعة، وبالتالى حذا حذو الولايات المتحدة واليابان لتقديم حوافز لصناعة الرقائق خلال 2022، بما فيها حزمة بقيمة 43 مليار يورو لتعزيز الإنتاج المحلى من 10% إلى 20% بحلول 2030.
وقال روتجر ويجبورج، كبير مسئولى العمليات فى شركة صناعة الرقائق الأوروبية «إنفينيون»، إن هذا الهدف يستهدف «زيادة السيادة التكنولوجية والمرونة الاقتصادية».
ويقول المتخصصون فى صناعة الرقائق إن هناك مستوى أعلى من الالتزام هذه المرة.
وقال رولاند جيسين، المدير الإدارى لشركة «فابماتيكش» ومقرها دريسدن: «لم يكن ثمة التزام حقيقى فى 2013، لكن هذا تغير تماماً بين عامى 2020 و2022، فبجانب صناعة السيارات، ترى صناعة الرقائق كصناعة رئيسية ضرورية لنجاح أوروبا».
كذلك، قال فرانك بويسنبيرج، العضو المنتدب لـ«سيليكون ساكسونيا»، إحدى أكبر جمعيات صناعة الرقائق بالكتلة، إن العديد من الصناعات وصُناع السياسات فى أوروبا وألمانيا أدركوا فى الأعوام الأخيرة فقط أهمية وتعقيد صناعة الرقائق.
وأوضح أن «أشباه الموصلات تعد الصناعة الأولى فى تايوان وكوريا الجنوبية، لكنها مجرد واحدة من العديد من الصناعات فى ألمانيا».
لكن حتى السياسة الحكومية المعاد تنشيطها والحوافز المالية قد لا تكون كافية لإنعاش الصناعة، خاصة عند مقارنتها بالجهود التى تبذلها الولايات المتحدة واليابان والصين.
منحت واشنطن مؤخراً 8.6 مليار دولار فى شكل منح و11 مليار دولار فى شكل قروض لشركة صناعة الرقائق الأمريكية «إنتل»، بجانب 6.6 مليار دولار لشركة «تايوان لتصنيع أشباه الموصلات» و6.4 مليار دولار لشركة «سامسونج».
وخصص أكبر مصنعين للرقائق فى العالم معاً مبلغ 200 مليار دولار لبناء مصانع فى الولايات المتحدة.
كما حصلت شركة رابعة، وهى «ميكرون»، على 6.1 مليار دولار لإنتاج الذاكرة المتقدمة لحوسبة الذكاء الاصطناعي.
وفى الوقت نفسه، منحت اليابان إعانات مالية لشركات «تايوان لتصنيع أشباه الموصلات» و«سامسونج» و«ميكرون» تعادل أكثر من 40% من استثماراتها المخططة فى البلاد.
ولم يضع الاتحاد الأوروبى اللمسات الأخيرة بعد على الدعم، فيما يتعين على الدول الأعضاء فرادى توفير الأموال العامة لمطابقة تلك الحوافز.
وأعلنت المفوضية الأوروبية مبادئ توجيهية هذا العام لشركات صناعة الرقائق لتقديم طلباتها، والتزمت ألمانيا بمطابقة بعض التمويل لتنشيط النظام البيئى للرقائق، وتركز معظم الخطط الاستثمارية لإنتاج الرقائق فى الكتلة على أشباه الموصلات الأكثر نضجاً.
يذكر أن الدعم المالى ليس سوى شرط أساسى واحد ضرورى لتصنيع أشباه الموصلات، بجانب الأهمية البالغة لوجود ما يكفى من المواهب والأسواق أيضاً.