قبل نصف ساعة من منتصف النهار فى صباح مشمس فى اسطنبول، اصطف عشرات الأشخاص أمام مطعم يحمل شعار “قلب عائم فى وعاء”، فقد امتلئ مطعم “كينت لوكانتاسى”، وهو نوع من المطاعم المدعومة من قبل المدينة، بعد لحظات من فتح أبوابه فى الساعة 12 ظهرًا.
وقال إردال جلال أكسوى، نائب الأمين العام للمدينة، إن كل مطعم من الـ14 الذى يشبه “كينت لوكانتاسى” فى اسطنبول تقدم حوالى 1000 وجبة بسعر 40 ليرة تركية يوميًا، والبلدية تدعم تكلفة المواد الغذائية بنسبة الثلثين.
ظهرت فكرة المطاعم هذه خلال 2022 وسط أزمة تضخم طويلة الأمد، حيث بلغ التضخم ذروته فوق 85%، لكن بعد مرور عامين، لايزال الطلب قويًا جدًا لدرجة أن اسطنبول تخطط لفتح 20 منفذًا آخر.
وتسلط شعبية “كينت لوكانتاسى” الضوء على الكيفية التى كافحت بها حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لترويض التضخم الجامح بعد عام من إطلاقها إصلاحًا اقتصاديًا شاملاً، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ورفع البنك المركزى التركى سعر الفائدة الرئيسى إلى 50% من 8.5% منذ بدء الإصلاح الاقتصادى، بقيادة وزير المالية محمد شيمشك، فى يونيو الماضى.
وتضاعف الحد الأقصى لسعر الفائدة الشهرية على بطاقات الائتمان، وهى وسيلة شائعة للاقتراض لدى المستهلكين الذين يعانون من ضائقة مالية، ثلاث مرات منذ يونيو الماضى ليصل إلى 4.25%.
كما زادت الحكومة الضرائب وأشارت إلى أنها لن ترفع الحد الأدنى للأجور مجددًا هذا العام بعد ارتفاعه بنسبة 49% فى يناير، وتعهدت الأسبوع الماضى بخفض الإنفاق العام على كل شيء من السيارات الأجنبية للأسطول الحكومى ووصولاً إلى تشييد المبانى الحكومية الجديدة.
حصل برنامج أردوغان على إشادة من المستثمرين، لكنه لم يدر فوائد بعد للأتراك، الذين يواجهون تضخما يقارب الـ70%، وارتفاع تكاليف الاقتراض وخفض إجراءات التحفيز التى خففت تأثير نمو الأسعار فى الأعوام الأخيرة.
قال سيلفا ديميرالب، الاقتصادى السابق فى بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى والذى يعمل الآن بجامعة كوتش فى إسطنبول: “إنه دواء مرير”، مضيفا أن المتقاعدين وذوى الدخل المنخفض “سيدفعون أكثر من غيرهم تكاليف كبح التضخم”.
ويتلخص هدف وزير المالية شيمشك فى القضاء على أزمة التضخم الطويلة الأمد التى آثارتها سياسات أردوغان السابقة، والتى ركزت على رهان فاشل بأن أسعار الفائدة المنخفضة ستعالج التضخم المرتفع بدلاً من التسبب فى ارتفاعه.
وتعهد أردوغان فى بداية مايو الجارى بعدم التراجع عن الخطة الجديدة، فى إشارة إلى أن الحكومة لن تقدم “إغاثة مؤقتة” كما فعلت فى الماضى.
تظهر بيانات البنك المركزى أن برنامج تركيا الجديد يعيد بناء الثقة ببطء بين مديرى الصناديق الدولية، الذين ضخوا نحو 10 مليارات دولار فى الأسهم التركية والديون الحكومية المقومة بالليرة خلال العام الماضى.
ورفعت وكالات التصنيف الائتمانى “ستاندرد آند بورز” و”فيتش” تصنيف تركيا هذا العام، فيما تؤدى أسعار الفائدة المرتفعة إلى تباطؤ نمو الإقراض، ومع ذلك، فإن الوضع فى محلات البقالة ومراكز التسوق لم يعكس بعد هذه الصورة المحسنة.
لايزال العديد من المستهلكين متشككين فى نجاح الإجراءات الاقتصادية الجديدة، بعد أن شاهدوا البنك المركزى يفشل فى تحقيق هدف التضخم كل عام منذ 2011.
وتمرد الناخبون ضد أزمة التضخم الطويلة الأمد فى الانتخابات المحلية خلال مارس الماضى، والتى ألحقت أكبر هزيمة بحزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان منذ تأسيسه قبل عقدين.
وقال هاكان كارا، الأستاذ فى جامعة بيلكنت، والذى كان فى السابق كبير الاقتصاديين فى البنك المركزى التركى، إن “توقعات التضخم مستمرة بسبب تآكل المصداقية فى الأعوام الماضية.. ويبدو أن الأسواق المالية تصدق جزئيًا قصة انخفاض التضخم، لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة عندما يتعلق بتوقعات الأسر والشركات الصغيرة”.
توقع البنك المركزى التركى فى بداية مايو الجارى أن ينخفض معدل التضخم السنوى إلى 38% بحلول نهاية العام بعد أن بلغ ذروته عند حوالى 75% هذا الشهر، لكن دراسة أجراها البنك المركزى تظهر أن المستهلكين يتوقعون أن يصل المعدل إلى 80% فى غضون عام.
وقال أكثر من 90% من المستهلكين فى استطلاع منفصل أجرته جامعة كوتش إن الوقت الحالى هو الوقت المناسب لشراء سلع طويلة الأمد، وهى إشارة إلى أنهم يعتقدون أن الأسعار ستواصل الارتفاع.
ويقول الاقتصاديون، إن هذه التوقعات تمثل تحديًا رئيسيًا للبنك المركزى فى كبح نمو الأسعار، لأنها تدفع الطلب إلى الأمام، مما يساهم فى دوامة الأسعار المرتفعة بشكل متزايد.