بدأت الحواجز التجارية والتعريفات الجمركية وغير ذلك من الأدوات الحمائية تبرز بصورة أكبر في مختلف أنحاء العالم، وغالباً ما تندرج ضمن التدابير المتعلقة بالأمن الاقتصادي.
ويعتبر القرار الأخير الذي اتخذته إدارة الرئيس جو بايدن بمضاعفة التعريفات الأمريكية على السيارات الكهربائية الصينية أربع مرات لتصل إلى 100%- إضافة إلى مضاعفة التعريفة الجمركية على الخلايا الشمسية (إلى 50%)، وزيادة التعريفة الجمركية على بطاريات الليثيوم أيون الكهربائية بأكثر من ثلاثة أضعاف (لتصل إلى 25%)- خطوة جديدة بالغة الأهمية في هذا الاتجاه.
وحتى هذة الساعة ، بُرّرت القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على التجارة مع الصين على أساس الأمن القومي، لمنع المؤسسة العسكرية الصينية من الحصول على تكنولوجيات حساسة.
وفي حين أن المرء يمكنه أن يناقش مسألة ما إذا كانت هذه السياسة منطقية، فإنها على الأقل تبدو جزءًا من استراتيجية أطول أجلاً.
لكن هذه التدابير الحمائية الأخيرة لا علاقة لها بقدرات الصين العسكرية، بل لا تهدف سوى إلى منع التكنولوجيات الخضراء الأقل تكلفة، والتي غالبًا ما تكون أفضل من المنتجات الأمريكية، من الوصول إلى المستهلكين في الولايات المتحدة.
ومن الواضح أن هذه التدابير مرتبطة بالانتخابات الأمريكية، فقد كان بايدن يحاول عرقلة دونالد ترامب عن طريق اللعب على أوتار المشاعر الحمائية التي ظل ترامب، المرشح الجمهوري المفترض، يؤججها لأعوام.
وعلى أي حال، فترامب هو الذي وضع العالم على مسار حمائي جديد عندما فرض تعريفات جمركية شاملة على الصلب والألمنيوم والعديد من الواردات القادمة من الصين.
وحرصًا منه على ألا يهزمه بايدن، قال بالفعل إنه سيضاعف التعريفة الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية القادمة من المكسيك، وسيفرض تعريفات إضافية على مجموعة أوسع من المنتجات.
وحتى إذا اتُخذت هذه التدابير بمعزل عن غيرها، فإنها تكون مكلفة وتؤدي إلى نتائج عكسية، إذ تفرض التعريفات الجمركية تكاليف أعلى على المستهلكين وتقلل من الضغوط التنافسية، ومن ثم من الابتكار.
وفي هذه الحالة، فإنها ستعيق أيضًا التحول إلى اقتصاد خالي من الانبعاثات، وليست لهذه السياسة أي ميزات إيجابية من الناحية الاقتصادية، والأسوأ من ذلك أن الجولة الأخيرة من تدابير الحماية تشكل جزءاً من اتجاه خطير ومقلق بصورة متزايدة.
وعلى نحو تدريجي، تعمل القوى الكبرى على تفكيك النظام الاقتصادي الدولي الذي حقق مكاسب هائلة على مدى عقود عديدة بفضل التكامل التجاري والعولمة.
أُحرزت هذه المكاسب بشق الأنفس، فقد انتهت الموجة الكبرى الأولى من العولمة بالحرب العالمية الأولى، وأعقبتها حروب تجارية وكساد كبير طوال فترة ما بين الحربين العالميتين.
ورغم استئناف التكامل التجاري بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى تسهيل إعادة إعمار أوروبا الغربية واليابان، فإن نطاقه ظل محدودًا.
ولم تبدأ الموجة الكبرى التالية من العولمة إلا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وهي فترة عادت فيها التجارة العالمية أخيرًا إلى مستويات ما قبل 1914.
وأثبت التوسع السريع في تدفقات التجارة والاستثمار طيلة العقود الثلاثة التالية نجاحه المذهل عبر كل مقاييس الاقتصاد الكلي.
إن ثلث كل ما أنتِج على الإطلاق جرى إنتاجه خلال تلك الفترة، مما أدى إلى ظهور طبقة وسطى عالمية جديدة.
وانخفضت معدلات الفقر انخفاضًا حادًا، وبدأت الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة تتقلص لأول مرة منذ بداية الثورة الصناعية.
ولكن على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، تغيرت المناقشات بخصوص التجارة.
وينصب التركيز الجديد على الأمن الاقتصادي، و”التخلص من المخاطر”، ودعم الصناعات المحلية بإعانات كبيرة تندرج في إطار السياسة الصناعية.
ويبدو أننا نسير إلى الوراء، مما يزيد من خطر العودة إلى الحروب التجارية التي كانت سائدة في فترات سابقة كانت حالكة.
ونشر صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية دراسات وافية أظهرت أن التجزؤ الاقتصادي الأعمق سيؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 5% إلى 7%، مع تحمل البلدان الأقل نموًا نصيبا أكبر من العبء بصورة غير متناسبة مع غيرها من البلدان، وهذه أرقام ضخمة ولها عواقب وخيمة.
وكل عام، ستتحول أجندة التنمية المستدامة التي تناصرها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى حلم كبير أكثر من كونها هدفًا عمليًا. وفي غياب اقتصاد عالمي متنام ومتكامل، فإن مهمة تحقيق أغلب الأهداف السبعة عشر سيزداد صعوبة، إن لم تصبح مستحيلة.
ويمكن للمرء أن يتخيل بسهولة ، سيناريو أفضل وأكثر منطقية تعود فيه الولايات المتحدة إلى الدفاع عن النظام الاقتصادي العالمي القائم على القواعد؛ وتعيد فيه الصين بناء مصداقيتها عن طريق الالتزام بقواعد اللعبة؛ ويرقى فيه الاتحاد الأوروبي إلى مستوى طموحه في أن يصبح بطلاً عالمياً للتجارة الحرة.
وبذلك، فإن كل طرف من شأنه أن يعزز مصالحه الخاصة، وأن يعود بالنفع على بقية العالم.
ومع ذلك، فإن الاتجاه تحول إلى الاتجاه المعاكس.
وفي حين يتنافس بايدن وترامب على ترسيخ نواياهما الحمائية الحسنة، بدأت أوروبا أيضًا تنظر إلى السيارات الكهربائية الصينية على أنها تهديد، وليس فرصة لتسريع وتيرة تحولها الأخضر.
أضف إلى هذا حديث الصين عن خلق اقتصاد “التداول المزدوج” الذي يتمتع بالاكتفاء الذاتي، وإعانات الدعم المستمرة التي تقدمها الهند ومقاومتها للتجارة، وكل هذه عوامل تؤدي إلى اقتصاد عالمي مجزأ على نطاق أوسع.
ومع رفض هذه القوى الكبرى للمبادئ والسياسات التي جلبت في السابق مكاسب اقتصادية غير مسبوقة، فلا يملك المرء إلا أن يأمل أن يتحلى صُناع السياسات في كل مكان بما يكفي من الشجاعة للتراجع وأن ينظروا إلى الصورة في نطاقها الأوسع.
إن التاريخ يظهر الأخطار التي نواجهها إذا وجهنا العولمة نحو الاتجاه المعاكس، ويجب ألا نسير في هذا الطريق مرة أخرى.