في فيلم “العودة إلى المستقبل 3” الصادر في 1990، وجد البطل مارتن مكفلاي نفسه محاصرًا في عام 1955، محاولاً بشدة إصلاح سيارته ديلوريان التي تسافر عبر الزمن للعودة إلى 1985.
وعندما سحب دائرة معيبة من السيارة، قال له رفيقه إيميت براون “دوك” الذي ولد 1955 مازحًا: “لا غرابة أن هذه الدائرة تعطلت، إنها مكتوب عليها ‘صنع في اليابان'”.
ومن ثم رد عليه مارتن قائلاً “ماذا تقصد يا دوك؟ أفضل الأشياء تُصنع في اليابان”.. ليتعجب دوك قائلاً “لا يُصدق”.
ربما يصعب تصديق ذلك الآن، لكن الشركات الأمريكية والأوروبية كانت تهيمن على الإلكترونيات العالمية.
وطوال معظم القرن العشرين، كان الغرب رائدًا في التقنيات الجديدة وينتج الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم، لكن الأمور تغيرت بحلول التسعينيات.
فقد تفوقت الشركات اليابانية وأنتجت رقائق أكثر قوة وأقل تكلفة من تلك المصنوعة في أماكن أخرى.
وتقدم العالم سريعًا، ليجري تصنيع معظم الرقائق في آسيا اليوم، فيما تنتج الولايات المتحدة وأوروبا معًا أقل من 10% من الإمدادات العالمية، حسب ما أوضحته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
لكن هيمنة آسيا على التكنولوجيا لها جوانب إيجابية وسلبية.
فقد أدت الاقتصادات الضخمة إلى خفض التكاليف، لكن في هذا العصر الذي يتسم بالانفصال وتقليل المخاطر، تشعر الحكومات خارج المنطقة بقلق متزايد بشأن تركيز الصناعة.
كما أن المخاطر الناجمة عن تصنيع معظم الشرائح المتقدمة في العالم في تايوان لا تغيب عن ذهن صُناع السياسات العالمية.
وازدادت هذه المخاوف إثر نقص الرقائق في حقبة الجائحة والتوسع الضخم في إنتاج أشباه الموصلات في الصين، التي تحاول منذ أعوام دخول لعبة الرقائق وقد حققت تقدمًا عند الطرف الأدنى من السوق.
تعمل الحكومات، مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية ومشاكل الإمدادات، على تكثيف إنتاج أشباه الموصلات، وتقديم الإعانات لجذب كبار صُناع الرقائق لإقانة مصانع على أراضيها.
يعد قانون الرقائق والعلوم الأمريكي بتقديم منح بقيمة 39 مليار دولار لصُناع الرقائق، بجانب قروض وضمانات وإعفاءات ضريبية.
وفي المقابل، يمتلك الاتحاد الأوروبي مبادرته الخاصة البالغ قيمتها مليارات الدولارات لتعزيز القدرة التصنيعية، كما تتطلع الاقتصادات الناشئة مثل الهند والمملكة العربية السعودية أيضًا إلى دخول هذا المجال.
ومع ذلك، فإن نقل سلاسل توريد الرقائق ليس بالأمر السهل، فقد قد تعززت مكانة آسيا لعقود كمركز رئيسي بلا منازع لإنتاج أشباه الموصلات.
وتهيمن شركتا “تايوان لصناعة أشباه الموصلات” التايوانية و”سامسونج إلكترونيكس” الكورية الجنوبية على سوق أشباه الموصلات المتقدمة، والتي تعد ضرورية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ويقود المصنعون في جنوب شرق آسيا سوق الرقائق القديمة، وهي أشباه موصلات أقل تقدمًا لكنها عالية الكفاءة تستخدم في كل شيء.
في الوقت نفسه، تهيمن الشركات اليابانية على أجزاء غالبًا ما تُهمل من سلسلة التوريد، مثل أدوات ومواد صناعة الرقائق، شركة “فوجي فيلم” تُصنع الآن مواد لنقل أنماط الدوائر إلى الرقائق والمواد الكيميائية لتلميع أسطح الرقائق، كما تنتج شركات مثل “كانون” و”نيكون” آلات صناعة أشباه الموصلات، وهو سوق متخصصة عالية القيمة تتقاسمه مع الشركة الهولندية الرائدة “أيه.إس.إم.إل”.
في عصر يمكن أن تكلف فيه مصانع الرقائق الجديدة المتطورة أكثر من 10 مليارات دولار، قلة من الدول يمكنها حشد الموارد والإرادة للتنافس.
إذا كانت هناك أي دولة يمكنها استعادة بعض حصتها السوقية، فهي الولايات المتحدة، التي لا تزال تملك خبرة كبيرة في صناعة الرقائق وقدرة تصنيعية، بجانب تحقيقها النجاح الأكبر في جذب صُناع الرقائق المتقدمة.
فعلى سبيل المثال، تبني شركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات” مصنع في أريزونا يهدف إلى إنتاج أشباه الموصلات من الجيل التالي في غضون بضعة أعوام، والأهم من ذلك، أن واشنطن كانت الأقل ترددًا في إنفاق الأموال اللازمة لتحقيق ذلك.
لكن حتى الولايات المتحدة لا يمكنها العمل بمفردها تمامًا، بل ستحتاج المصانع الجديدة للرقائق إلى مواد مستوردة من آسيا أو آلات من اليابان وأوروبا، أو كليهما.
بالإضافة إلى ذلك، سيجري شحن الشرائح المصنوعة في الولايات المتحدة إلى آسيا للتجميع والاختبار والتغليف، على الأقل في المستقبل القريب، وهذا فقط بعد بدء الإنتاج، حيث واجه مصنع “تايوان لصناعة أشباه الموصلات” في أريزونا بالفعل تأخيرات متعددة.
إذًن، ما الذي ينتظر هذه الصناعة؟
رغم كل القوى التي تعيد تعريف سلاسل التوريد العالمية، من غير المرجح خروج إنتاج الرقائق بالكامل من آسيا.
وتعمل المصانع قيد الإنشاء في الغرب بشكل أساسي لتنوع قواعد الإنتاج وجعل سلاسل التوريد أكثر مرونة في مواجهة الصدمات، لكن ذلك يأتي بثمن، فهو يعني زيادة التكرار وطول مسارات الإمداد تكاليف أعلى وهوامش أقل.
وسيؤدي عزل سلاسل التوريد إلى زيادة هذه التكلفة.
وفي ظل سعي الدول لحماية قدرة صناعة الشرائح والخبرات الحيوية، ستصبح سلاسل التوريد أكثر انغلاقًا، مما يزيد من التكاليف.
وتعمل الولايات المتحدة مع حلفائها على تقييد تصدير أدوات صناعة الرقائق والتقنيات الحيوية إلى الصين، كما يبدو أن الاستثمار الأجنبي الجديد يتحول بعيدًا عن الصين.
من الصعب ضمان نجاح مثل هذه الجهود، وربما يدفع العزل الصين إلى مضاعفة جهودها لتسلق سلسلة قيمة الرقائق، فالضرورة أم الاختراع.
من المبكر القول كيف ستتطور الأمور، لكن إعادة احتضان الغرب لصناعة الشرائح لن تترك آسيا في مأزق.
