أدركت أوروبا أخيرًا أن لديها مشكلة في النمو الاقتصادي.
لكن السؤال المطروح الآن: “هل يمكنها إيجاد الحل لهذه الأزمة؟”
في تقرير صدر في 9 سبتمبر، حاول ماريو دراجي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ورئيس وزراء إيطاليا الأسبق، الذي يُعد خبيرًا تقنيًا غير رسميًا للقارة، معالجة هذه المشكلة الشائكة.
حوى التقرير المكون من 400 صفحة تقريبًا بين دفتيه خطة دراجي لإعادة هيكلة الاقتصاد الأوروبي.
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي تم انتخابها مؤخرًا لولاية جديدة، تبدو متحمسة لتطبيق نصائح دراجي، بل وحتى الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” ومنصة “إكس” ، إيلون ماسك ، الذي يُعتبر أحد المعارضين المتكررين للاتحاد الأوروبي، أشاد بتحليل دراجي.
يأتي هذا التقرير كتكملة لتقرير سابق صدر في أبريل عن رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق إنريكو ليتا، والذي تناول السوق الموحدة الأوروبية.
كلا التقريرين ركزا على سبل تعزيز التنافسية في أوروبا، إذ يسعى المؤلفان إلى تعزيز الابتكار وزيادة التمويل للمشاريع الأكثر خطورة، واستغلال حجم أوروبا من خلال جمع الأسواق المتفرقة.
وباختصار، يطمحان إلى جعل أوروبا أكثر تكاملاً وقوة، وهذا أمر مرغوب فيه، على الأقل في هذه المجالات.
لكن التساؤلات تبقى قائمة: هل ستقبل الدول بفكرة الدمج في القطاعات الحساسة مثل الدفاع؟ هل ستتمكن من تجاوز الخلافات الصغيرة التي تعيق الوحدة؟ وهل ستكون مستعدة للإنفاق الضروري لتحقيق تلك الأهداف؟
رغم أن أوروبا لطالما كانت أفقر من أمريكا، إلا أن مواطنيها لم يهتموا كثيرًا بهذا الأمر في الماضي.
لكن دراجي يؤكد أن نظرة العالم تغيرت تجاه أوروبا كثيرًا، مما يجعل افتقار القارة إلى النمو والابتكار تهديداً لأسلوب حياتها.
وفي مقال رأي لمجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية، كتب دراجي أن “الاتحاد الأوروبي وصل إلى نقطة لا بد فيها من التحرك، وإلا سيضطر إلى التضحية إما برفاهيته أو بيئته أو حريته”.
استند دراجي في حجته إلى العديد من التطورات العالمية، منها أن العالم لم يعد يلتزم بالقواعد التي يضعها الاتحاد الأوروبي.
تقود الولايات المتحدة والصين، دول العالم الآن عبر سياسات حمائية تهدف إلى تعزيز تنافسية شركاتهما.
القارة تخاطر بالاعتماد على سلاسل توريد خارجية تسيطر عليها الصين
وفي المقابل، تخشى أوروبا من أنها ستخسر اقتصاديًا إذا لم تتمكن شركاتها من المنافسة، فضلاً عن أنها تخاطر بالاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية التي تسيطر عليها الصين، مثل المعادن الأرضية النادرة، أو التي قد يُفرض عليها مستقبلاً قيودًا من جانب إدارة أمريكية مستقبلية في أوقات الأزمات، مثل التكنولوجيا المتقدمة.
علاوة على ذلك، فإن تراجع أوروبا الاقتصادي بات أكثر إيلامًا.
ففي عام 1995، كانت إنتاجية أوروبا تعادل 95% من إنتاجية أمريكا، وهذا الرقم تراجع اليوم إلى ما دون 80%، وهو فارق كبير بما يكفي ليلاحظه السائحون.
وفيما يتعلق بالتكنولوجيا المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، تبدو أوروبا الآن متخلفة أكثر.
ارتفاع أسعار الطاقة يصعب مهمة جذب الشركات المتقدمة
ومع انتشار هذه التكنولوجيا في مزيد من القطاعات، مثل السيارات ذاتية القيادة، فإن إمكانات أوروبا في الابتكار ستتضاءل أكثر، كما أن ارتفاع أسعار الطاقة سيجعل من الصعب عليها جذب الشركات المتقدمة في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت أوروبا عاجزة عن استغلال إمكاناتها بالكامل، بينما تستفيد دول أخرى من حجمها الهائل.
وكما يشير ليتا: “في الثمانينيات، عندما كان السوق الموحد تتشكل، كان حجم اقتصاد إيطاليا يضاهي حجم الاقتصادين الصيني والهندي مجتمعين”.
ولم يكن مهمًا حينها ما إذا كانت قطاعات مثل الدفاع أو الطاقة أو الاتصالات تُدار على المستوى الوطني، لكن الآن، الأمور مختلفة تمامًا الآن.
إذن، ما الذي يمكن لأوروبا فعله الآن؟
يركز دراجي في تقريره بشكل رئيسي على تعزيز الابتكار، معتبرًا أنه ينبغي أن يصبح “أداة الاستجابة الأولى”.
ولتحقيق هذا الهدف، يقترح أن تقوم الدول الأوروبية بتوحيد عملية صنع القرار في مجال الأبحاث والتمويل، مع الاتفاق على زيادة الإنفاق في هذه المجالات.
كما يدعو إلى إنشاء وكالات أوروبية متقدمة للأبحاث، على غرار الوكالة الأمريكية الشهيرة التي أسهمت في تطوير تكنولوجيات مثل نظام تحديد المواقع وشبكات الإنترنت.
ويريد درجي أيضًا استثمارًا كبيرًا في المؤسسات البحثية الرائدة على مستوى العالم من خلال عملية تنافسية.
لكن الأمر لا يتوقف هنا، فهو يرى أيضًا أن الدعم المالي للمشاريع الريادية ضروري، إذ يعد التمويل المصرفي متاح بسهولة للشركات الراسخة التي تمتلك أصولاً لتقديمها كضمانات وإيرادات لخدمة الديون، لكن هذا النوع من التمويل غير ملائم للشركات الناشئة التي لا تمتلك موارد كافية وتواجه مستقبلاً غير مؤكد.
في أوروبا، يأتي ثلاثة أرباع القروض المؤسسية من البنوك، مقارنة بالربع فقط في الولايات المتحدة.
وبالتالي فإن أسواق رأس المال الأعمق والأكثر سيولة ضرورية للنمو، وهو ما أكده أيضًا الزعيمان الأوروبيان السابقان، في رسالتهما التي تردد صداها على نطاق واسع على نحو متزايد من قبل القادة الوطنيين والرؤساء.
وكما يقول كريستيان سوينج، الرئيس التنفيذي لـ”دويتشه بنك”: “لن تنجح الصفقة الخضراء دون اتحاد لأسواق رأس المال”.
إن تأسيس اتحاد أوروبي للأسواق المالية يتطلب التغلب على التشتت الذي تعاني منه القارة، حيث يوجد 27 نهجًا مختلفًا للتعامل مع ملاءة الأسواق المالية، كما يتطلب الانتقال من أنظمة التقاعد العامة غير الممولة إلى أنظمة تعتمد بشكل أكبر على السوق وتكون أكثر تمويلاً.
ووفقًا لمركز الدراسات الاقتصادية “نيو فاينانشال”، فإن أصول صناديق التقاعد في أوروبا تشكل حوالي 32% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ173% في الولايات المتحدة.
وكما يقول كريستيان سوينج، الرئيس التنفيذي لـ”دويتشه بنك”: “نحن بحاجة إلى تغيير ثقافي في كيفية تمويل الشركات، نظرًا لكل الاستثمارات المطلوبة. وفي هذا السياق، نحن بحاجة أيضًا إلى تغييرات تنظيمية في أوروبا تسمح بتمويل النمو”.
ويقترح دراجي إنشاء هيئة إشراف أوروبية للأسواق المالية، على غرار لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، لتمكين الأسواق الأوروبية من مواكبة المتغيرات.
وعلى نطاق أوسع، يحرص دراجي على عدم تحدي الرؤية الاقتصادية الأساسية التي ترى أن المنافسة هي الحافز الأبرز للابتكار.
ومع ذلك، فإنه يشير إلى ضرورة التكيف مع التغيرات التكنولوجية وتطور الأسواق، موضحًا بأن الهيئات التنظيمية لابد أن تكون أكثر كفاءة وسرعة في الاستجابة للتحديات المستقبلية، وأن تأخذ في الاعتبار تأثير هذه التغيرات على الابتكار ومرونة سلاسل التوريد.
كمثال، يرى دراجي أن السماح لشركتي “ألستوم” و”سيمنز” الأوروبيتين بالاندماج في عام 2019 كان يمكن أن يساعدهما على المنافسة بشكل أفضل مع الشركات الصينية العملاقة.
كما يدعو دراجي إلى أن تكون المساعدات الحكومية الأوروبية أقل تشتتًا وأكثر تركيزًا على المصالح المشتركة بين دول القارة.
وقد لاقى تقرير دراجي استحسان القوى الاقتصادية وأصحاب القرار في أوروبا، ومن المتوقع أن يحظى بدعم واسع حتى يتم تنفيذه.
فعلى سبيل المثال، تعتبر عملية تنافسية لتمويل المعاهد البحثية أمرًا لا يثير الكثير من الجدل.
وقد قامت ألمانيا بتطبيق مخطط مشابه في بداية القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، بعد أن ذهب معظم التمويل إلى ولايتين مزدهرتين في الجنوب، تم تعديل البرنامج ليشمل جميع المناطق.
في المقابل، حققت وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الأمريكية نجاحًا كبيرًا بفضل غياب التعقيدات البيروقراطية، وهو ما يصعب على الحكومات الأوروبية القيام به بسبب طبيعة غرائزها التنظيمية.
لا شك أن العديد من خطط دراجي، مثل إنشاء هيئة إشراف موحدة للأسواق المالية، تتطلب أيضًا نقل السلطة بعيدًا عن الحكومات الوطنية، التي تفضل الحفاظ على سيطرتها على الشركات الوطنية الكبرى.
إنريكو ليتا يلخص هذا التحدي بقوله: “كل رئيس حكومة يرغب في أن يكون لديه اتصال مباشر مع رؤساء شركات الطاقة الوطنية أو البنوك أو شركات الاتصالات، خصوصًا في أوقات الأزمات”.
وفي 11 سبتمبر، أعلنت “يوني كريديت”، ثاني أكبر بنك في إيطاليا، أنها استحوذت على حصة قدرها 9% من “كوميرزبانك”، ثاني أكبر بنك في ألمانيا، وأشارت إلى نيتها في زيادة هذه الحصة في المستقبل.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل ستسمح ألمانيا بمثل هذا الاندماج بين البنوك؟
هذا سيكون اختبارًا حاسمًا لمعرفة ما إذا كانت الغريزة الوطنية أو الأوروبية ستغلب في نهاية المطاف.
في تحليله للصناعات الفردية، يركز دراجي على فكرة إنشاء أسواق أوروبية عابرة للحدود، وهي فكرة لم تتحقق بشكل كامل حتى الآن. فعلى سبيل المثال، في قطاع الاتصالات، يطمح دراجي إلى تسهيل عمليات الاندماج بين الشركات بهدف زيادة الاستثمار وتعزيز التنافسية.
ومع ذلك، تواجه هذه الفكرة معارضة قوية، حيث تعترض مارجريت فيستاجر، رئيسة المنافسة المنتهية ولايتها في المفوضية الأوروبية، على هذا الطرح، قائلة إن توحيد الشركات قد لا يكون دائمًا الحل الأمثل.
ويعزز هذا الرأي زاك مايرز من مركز الإصلاح الأوروبي، الذي يرى أن “قطاع الاتصالات هو ربما أسوأ مثال على الحاجة إلى التوسع”.
ويشير إلى أن تقليل عدد الشركات في هذا القطاع عادة ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الجودة، دون تحقيق زيادة في مستويات الاستثمار.
بالمثل، قد تؤدي الخطط الرامية إلى إصلاح قوانين المنافسة باسم السيادة أو الصمود إلى تعزيز القوى غير المرغوب فيها.
وفي هذا السياق، لم يقضِ دراجي وقتًا كافيًا في تحليل الأسباب التي تجعل الدول ذات التوجهات السوقية، مثل هولندا ودول الشمال الأوروبي، ورغم صغر حجمها حتى بمقاييس أوروبا، تنجح في احتضان شركات التكنولوجيا المبتكرة.
كما لم يتناول بالتفصيل كيف أن ألمانيا، بعد تحرير سياساتها التخطيطية، شهدت نموًا سريعًا في قطاع الطاقة المتجددة دون الاعتماد على المساعدة الأوروبية.
هذه الأمثلة تثير التساؤلات حول السياسات التي تتبناها أوروبا ومدى فعاليتها في تعزيز الابتكار والنمو.
وهناك أيضًا مسألة التمويل، إذ تشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن تنفيذ خطط دراجي سيتطلب زيادة سنوية في الإنفاق تتراوح بين 750 مليار يورو و800 مليار يورو، هذا سيؤدي إلى رفع نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا من 22% إلى 27%، وهو مستوى غير مسبوق بعد عقود من التراجع.
ومع ذلك، إذا أخذنا التجارب السابقة بعين الاعتبار، فإن أربعة أخماس هذا المبلغ يجب أن تأتي من القطاع الخاص، وهو أمر يبدو غير مرجح حتى في حال نجاح الاتحاد المالي، مما يشكل تحديًا كبيرًا لتحقيق الأهداف الطموحة التي حددها دراجي.
وهذا يترك خيار الإنفاق الممول بالديون من قبل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يرى دراجي أنه قد يكون مفيدًا، لكنه يتجنب الدعوة إليه بشكل صريح، مدركًا أن قادة دول شمال أوروبا ليسوا مستعدين لتحمل دفعة جديدة من الديون.
يقول دراجي: “لم يظهر حجم دولنا من قبل بهذا القدر من الصغر والعجز مقارنة بحجم التحديات التي نواجهها”. وهو في ذلك محق، إذ أن حجم التحديات الاقتصادية الراهنة يكشف عن ضعف القدرات الوطنية أمام المشاكل الكبرى.
لكن التحدي الحقيقي الذي يواجهه دراجي الآن يتجاوز مجرد تحليل المشاكل؛ فهو بحاجة إلى إقناع الحكومات الوطنية بالتخلي عن جزء من سلطاتها، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل الظروف السياسية الحالية.