قبل أسبوعين، قرأت تقريرًا صادرًا عن شركة “Hempey Partner” يرصد خروج 100 مليونير مصري بثرواتهم من مصر خلال العام الماضي، بإجمالي ثروات قدره 800 مليون دولار، وأن مصر تحتل المركز الثاني بعد جنوب أفريقيا في عدد المليونيرات بالقارة الإفريقية.
وقد لفت نظري في هذا التقرير رقم “100 مليونير”، فإذا كان هؤلاء المائة مليونير قد خرجوا، فكم يبلغ عدد المليونيرات في مصر؟ وهل هذا الرقم حقيقي؟
فما نعرفه عن المليونيرات في مصر يقتصر على عدد محدود من المشاهير، مثل آل ساويرس وآل منصور، الذين يمتلكون مليارات الدولارات، ثم آخرين مثل طلعت مصطفى وآل دياب وغيرهم من العائلات المعروفة بتاريخها الطويل في عالم البيزنس.
إلا أن التقرير يقول إن في مصر نحو 15 ألفًا و700 شخص يُطلق عليهم لقب “مليونير”، إذ يمتلك الواحد منهم أصولًا تزيد قيمتها على مليون دولار، وتتوزع أعدادهم في القاهرة وحدها بنحو 7 آلاف و200 مليونير، والباقي في الإسكندرية والمنصورة وبعض محافظات الدلتا والصعيد. وهؤلاء المليونيرات الجدد ظهروا خلال العقد الأخير.. فكيف ظهر هؤلاء؟ وما مصادر ثرواتهم؟.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: اللهم ابعث لنا أم كلثوم تجمع لنا دولارات
لا شك أن كثيرًا منهم حقق ثروته من الاستثمار العقاري، سواء في التجارة أو البناء أو المضاربة، بجانب العمل في مشروعات البنية التحتية التي نفذتها الدولة وشارك فيها عدد كبير من مقاولي الباطن. كما استفادت فئات أخرى من ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وأنشطة التجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية، والمضاربة في العملات والذهب، وخدمات الوساطة المالية، والمضاربة في البورصات.
وللأسف، فإن الاقتصاد المصري يمتلك بعض الخصائص التي تُسهِّل ظهور هذه الطبقة؛ فهو اقتصاد ريعي غير منتظم، به العديد من الثغرات التي تسمح بالاستفادة من تقلبات السوق والاحتكار، بجانب الإنفاق الحكومي الضخم على مشروعات البنية التحتية، التي خلقت طلبًا عاليًا على الخدمات والمقاولات. بالإضافة إلى الاستفادة من الثورة التكنولوجية في الاقتصاد الرقمي وعالم الإنترنت (التجارة الإلكترونية وصناعة المحتوى). ولكن هذه الثروات لا تعبّر عن صحة اقتصادية عامة، بل عن استفادة نخبوية من تشوّهات هيكلية، وهو ما يثير تساؤلات حول العدالة والاستدامة في تكوين هذه الثروات.
ولا شك أن هؤلاء المليونيرات الجدد ساهموا في تحريك الاقتصاد بزيادة الطلب على السلع والخدمات، وهم طبقة جديدة تنفق ببذخ، فما نراه من ازدحام في المطاعم الشهيرة والمولات، والطلب على العقارات الفاخرة، يؤكد وجود هذه الطبقة الجديدة.
وإيجابيًا، فإن هذه الطبقة تُسهِم في جعل الاقتصاد المصري متماسكًا أمام العديد من الأزمات، على الرغم من أن أغلبية أفرادها ينتمون إلى الاقتصاد غير الرسمي. وسلبيًا، فإن وجود هذه الطبقة الجديدة يزيد من التفاوت الطبقي والاحتقان الاجتماعي، ويُشجّع على قيام اقتصاد غير منتِج قائم على الربح السريع لا على القيمة المضافة. ومن منظور علماء الاقتصاد والاجتماع، فإن هذه الطبقة ليست نتاج اقتصاد حقيقي يحقق فائضًا في صادراته وتنوعًا في إيراداته من سياحة وخدمات، ينعكس على مستوى دخل المواطن، بل العكس: هو اقتصاد يعاني من تضخم في المشروعات، وارتفاع في أسعار السلع، وتراجع في القوة الشرائية.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: عفوًا سيادة النائب.. تغيير السياسات أهم من التغيير الوزارى
فهل ستدوم ثروات هذه الطبقة الجديدة، أم ستنتهي بانتهاء الظروف الاستثنائية التي أنشأتها؟ وهذا ما يأخذنا إلى أوجه الاختلاف بين طبقة المليونيرات الجدد والقدامى الذين نعرفهم بوجودهم منذ عقود، بسبب انتمائهم لعائلات تمتلك تاريخًا طويلًا في عالم البيزنس لأكثر من نصف قرن، وطبيعة الأنشطة التي يعملون فيها، سواء الزراعة أو الصناعة أو المقاولات، فضلًا عن امتلاكهم أنشطة تعمل بنظام مؤسسي.
وهؤلاء المليونيرات الجدد يمكن ملاحظتهم في طريقة إنفاقهم، من خلال نشرهم لقيمة فواتير الشراء للسلع أو ما ينفقونه على وجبات الطعام في المطاعم الشهيرة، وبالطبع في الإنفاق الكبير في “الساحل الشمالي”، الذي تمثل هذه الطبقة أهم أفراده.
وحتى لا يتهمنا أحد بالحقد على هذه الطبقة، أو بأننا ننتمي إلى الشيوعية أو ما شابه ذلك، فإن المقصد من هذا الحديث، بلغة علم الاجتماع، هو رصد مجتمعي لطبقة جديدة ظهرت في المجتمع، ومحاولة للإجابة عن تساؤلات البعض بشأن الإنفاق الكبير والملحوظ في المولات والمطاعم، وحجم الازدحام بالكافيهات رغم ارتفاع أسعارها، وشراء العقارات التي تزيد قيمتها على 100 مليون جنيه، في بلد يعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة زادت من نسبة الفقر فيه.
وما نريده هو أن يكون لدينا اقتصاد حقيقي يُنتج مستوى معيشة جيدًا لكل المواطنين، لا لفئة محدودة فقط. اقتصاد ذو قيمة مضافة، لا ريعي، قائم على العدالة الضريبية؛ فمن غير المعقول أن يكون العامل والموظف هما الممولَين رقم 1 للنظام الضريبي، بينما المليونيرات الجدد خارج هذا النظام. لذلك، يجب العمل على إدماج هذه الطبقة الجديدة في الاقتصاد الرسمي، لتكون إضافة حقيقية، وتوجيه ثرواتهم نحو الاستثمار المنتج، لا مجرد الاستهلاك والمضاربة.








