في السنوات الأخيرة، تضاعف الاهتمام بريادة الأعمال في مصر بوتيرة ملحوظة، لكن هذا الزخم ظلّ يدور في فلك جغرافي ضيّق يتمركز في العاصمة.
القاهرة، بحاضناتها، مسرّعاتها، مستثمريها، ومؤتمراتها، تمثل الوجه الرسمي للمنظومة الريادية في مصر.
لكن السؤال اليوم لم يعد فقط: كيف نطوّر بيئة ريادة الأعمال؟ بل أصبح: أين نطوّرها؟ وهل تستقيم أي محاولة للنمو الوطني إذا ظلّ الابتكار محصورًا في مدينة واحدة؟
القاهرة كمركز.. والحدود الخفية لباقي المدن
لا شك أن القاهرة تُعتبر بوابة الاستثمار والابتكار في مصر، لكن هذا التمركز له ثمن، وتؤكد أحدث مراجعة لمنظومة ريادة الأعمال في مصر من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD 2025) أن ما يقرب من 46% من المؤسسات النشطة – وتشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة – تتركز في خمس محافظات فقط (القاهرة، والجيزة، والدقهلية، والإسكندرية، والشرقية)، بناءً على تعداد 2017 مما يدل على تمركز النشاط الاقتصادي في مناطق محدودة .
كما يشير التقرير إلى أن تنفيذ سياسات دعم الشركات الناشئة لا يزال مركزيًا، وأن الدعم في المحافظات الأخرى “غير متناسق” وغالبًا ما يعجز عن تلبية احتياجات الواقع المحلي، مما يلقي ظلالًا على فعالية تلك السياسات خارج نطاق العاصمة .
ورغم احتلالهما مراكز متقدمة نسبيًا، فإن الفجوة بين العاصمة وباقي المحافظات لا تزال كبيرة على مستوى حجم التمويل، عدد المسرّعات، وعدد الشركات النشطة.
فعدد الشركات الناشئة المسجّلة خارج القاهرة لا يتجاوز 18% من إجمالي المشروعات، بحسب بيانات منصة MAGNiTT لعام 2024.
هذا التفاوت لا يعكس تفاوتًا في الأفكار أو الكفاءات، بل في حجم الوصول إلى الموارد والفرص.
ما وراء الجغرافيا: لماذا تعيق المركزية الابتكار؟
الابتكار لا يحتاج فقط إلى تمويل، بل إلى فهم محلي وسياق واقعي، ففي أسيوط، تتعامل الشركات الناشئة مع مشاكل الزراعة والمياه.
وفي دمياط، تسعى المشاريع إلى رقمنة الحرف اليدوية والتجارة الصغيرة، هذه التحديات، رغم خصوصيتها، لا تجد مسارات احتضان مناسبة في منظومة مبنية على مشكلات المدن الكبرى.
المركزية لا تعيق فقط توسّع الشركات خارج العاصمة، بل تحد من قدرتها على معالجة مشكلات محلية بفعالية. وحتى في حالات النجاح، كثير من مؤسسي الشركات خارج القاهرة يضطرون لنقل عملياتهم إلى العاصمة ليلقوا الاعتراف والدعم. هذا لا يؤدي إلى تنمية عادلة، بل إلى استنزاف للموارد من الأطراف نحو المركز.
اللامركزية كضرورة اقتصادية لا شعارات تنموية
النموذج المركزي لم يعد كافيًا لمواكبة الاحتياجات الحقيقية للاقتصاد المصري، القطاع الخاص بدأ يدرك هذا التحوّل.
خلال عام 2024 أطلقت عدة شركات برامج احتضان في محافظات منها الغربية والمنيا، وشملت مبادرات تقودها شركات اتصالات كبرى تستهدف رقمنة الخدمات المحلية، ومبادرات تقودها بنوك بالتعاون مع الجامعات الإقليمية.
كما أعلنت هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (ITIDA) عن دعم مراكز الإبداع التكنولوجي في ٦ محافظات جديدة، ضمن خطة لتوسيع رقعة الوصول إلى المهارات الرقمية.
ورغم أهمية هذه الخطوات، إلا أن نتائجها لا تزال محدودة بسبب ضعف الربط بين هذه المبادرات والمراكز الاستثمارية في القاهرة أو الإسكندرية.
رؤية لا تعترف بالحدود الداخلية
اللامركزية لا تبدأ بإنشاء مكاتب في الأقاليم، بل بتغيير جذري في طريقة التفكير، منظومة ريادة الأعمال المصرية تحتاج إلى منهجية تتجاوز فكرة “التوسّع”، وتتبنى إعادة توزيع الذكاء والفرص.
وهنا بعض الملامح التي يمكن أن تشكّل هذا التحوّل:
● منح تمويل تنافسي حسب المشاكل المحلية، وليس فقط حسب الأفكار: بدلاً من تمويل الشركات بناءً على “جاذبية الفكرة”، يمكن تصميم صناديق تنافسية ترتكز على قدرة المشروع على حلّ مشكلة محلية واضحة في محافظته.
● بورصة محلية للمواهب الريادية: منصة إلكترونية تربط الموهوبين من المحافظات (مطورين، مصممين، باحثين) بمشاريع ناشئة في أنحاء مصر، بحيث تُعامل المهارات كأصل يمكن تداوله عبر الحدود الجغرافية.
● معسكرات تطوير محليّة قصيرة، بدلًا من المسرّعات التقليدية: معسكرات مكثفة لمدة أسبوع إلى عشرة أيام، تُعقد في الجامعات أو المكتبات العامة، وتُدار رقميًا لتأهيل أفكار محلية دون الحاجة للسفر إلى العاصمة.
● بنية تحتية للتوصيل العكسي (Reverse Exposure): جولات منتظمة للمستثمرين والخبراء إلى المحافظات، بدلًا من انتظار المؤسسين ليأتوا إلى العاصمة.
● توطين الابتكار في المدارس الفنية والتقنية: تحويل بعض المدارس الفنية إلى “حاضنات تطبيقية” للمشاريع الصغيرة، خصوصًا في قطاعات الزراعة، التصنيع، والخدمات.
● نقاط ابتكار متنقلة: أتوبيسات أو وحدات مجهزة تجوب المحافظات لتقديم جلسات تدريب وإرشاد ومسابقات Pitch وربط مباشر بمنصات رقمية وطنية.
● دليل وطني للفرص المحلية: دليل رقمي لكل محافظة يضم التحديات، الموارد، المهارات المتاحة، وشبكة الدعم المحلية، ليساعد رواد الأعمال على بناء مشاريع تستند إلى واقعهم الحقيقي.
لا مستقبل لنظام مركزي في اقتصاد غير مركزي
مع تنامي الوعي بدور المحافظات في التنمية الاقتصادية، لم يعد مقبولًا أن تبقى القاهرة وحدها مركز الفعل الريادي.
اللامركزية ليست رفاهية تنظيمية، بل ضرورة استراتيجية. هي المسار الحقيقي نحو نظام بيئي متنوع، قادر على إنتاج حلول من بيئات مختلفة، لمشكلات مختلفة، بأساليب مختلفة.
كشخص عمل في برامج لدعم ريادة الأعمال في أكثر من عشر محافظة مصرية، شاهدت قدرًا هائلًا من الإبداع والمثابرة، و لكن أيضًا من الإقصاء غير المقصود.
الفرصة اليوم أن نبني منظومة وطنية تعترف بأن المستقبل لا يُولد في مركز واحد، بل يصعد من كل نقطة ضوء لم تُلتفت إليها بعد.








