لم يعد الحديث عن التغير المناخي ترفاً أكاديمياً أو شأناً بيئياً محضاً، بل صار مسألة وجودية ومعركة بقاء تهدد حاضر البشرية ومستقبلها. تشير تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى أن حرارة الأرض ارتفعت بالفعل بمقدار يتراوح بين 1.1 و1.2° مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو ما أدى إلى تزايد الظواهر المناخية المتطرفة بوتيرة غير مسبوقة؛ موجات حر قاتلة اجتاحت أوروبا وآسيا، فيضانات عارمة دمّرت قرى بأكملها في السودان وليبيا، وجفاف شديد أصاب القرن الإفريقي، كل ذلك يعكس حقيقة أن الكوكب يدخل عصر “التطرّف المناخي”.
وفى ضوء هذه التطورات، تحذّر تقارير المنظمات الدولية المعنية بالمناخ من أن هذه الكوارث لم تعد حوادث معزولة، بل باتت نمطاً متكرراً يضاعف المخاطر على الأمن الغذائي والصحي والمائي، ويهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مناطق عديدة. فضلًا عن ذلك ، يكشف التقرير الشامل للتقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC AR6 Synthesis Report)” عن فجوة خطيرة بين حجم التهديدات والإجراءات التي تنفذها الدول فعليًا للتخفيف والتكيف. هذه الأزمة العالمية تتزامن ايضًا مع عجز المجتمع الدولي عن وقف الحروب والنزاعات، مما يعمّق أزمة الثقة في قدرة النظام الدولي على التعامل مع التحديات المشتركة.
الأدلة العلمية صارت دامغة ولم تعد قابلة للتجاهل أو التأجيل. فوفق تقارير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، تضاعف عدد الكوارث المناخية منذ ثمانينات القرن الماضي ثلاث مرات تقريباً، وأصبح نحو 3.6 مليار شخص يعيشون في مناطق شديدة التأثر بالتغير المناخي. الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذه الكوارث تُقدَّر بمئات المليارات سنوياً، في حين تتزايد “الخسائر والأضرار” التي لا يمكن تعويضها حتى مع أفضل خطط التكيف. ومن المرجح أن يتجاوز الاحترار العالمي حاجز 1.5° مئوية خلال العقد المقبل إذا استمرت الانبعاثات على مسارها الحالي، ما يجعل تحقيق أهداف اتفاق باريس أكثر صعوبة.
تأسيسًا على ذلك، لم تعد المخاطر المناخية مقتصرة على البيئة وحدها، بل أصبحت عاملاً مضاعفاً للتهديدات الأمنية والاجتماعية. لاسيما في ظل تعقيدات متشابكة بالمشهد العالمي جراء مُعضلة الأمن والمناخ. لتفرض بدورها تحدياً نوعياً إزاء كيفية مواجهه التهديدات البيئية وإراداتها المتباينة على البؤر الصراعية المتأججة إقليميا ودوليا، والتي قد تُنذر بمزيد من الاضطراب جراء التغير المناخي تقارير الأمم المتحدة ومراكز بحثية مثل UNICRI تشير إلى أن تغير المناخ يزيد من احتمالات الصراع على الموارد، الهجرة القسرية، وحتى انتشار التطرف والعنف في المناطق الهشة. مثال ذلك منطقة الساحل الإفريقي حيث يتقاطع الجفاف مع الفقر وانعدام الأمن، ما يخلق بيئة خصبة للنزاعات المسلحة وحركات التمرد.
ومن هذا المنطلق، تبرز قضية العدالة المناخية كأحد المحاور الأساسية للنقاش العالمي. فالدول النامية، التي لا تسهم إلا بنسب محدودة من الانبعاثات التاريخية، تتحمل العبء الأكبر من الخسائر والأضرار والكوارث. هذه الدول تطالب بالتزامات واضحة وملزمة من الدول الصناعية الكبرى لتمويل التكيف ونقل التكنولوجيا ودعم بناء القدرات، بل وتخفيف أعباء الديون التي تعيق استثماراتها في التحول الأخضر. الفشل في تلبية هذه المطالب سيزيد من فجوة الثقة ويحوّل قمم المناخ إلى مجرد منصات لتكرار الشعارات بدلاً من اتخاذ خطوات حقيقية لإنقاذ الكوكب.
ورغم وضوح الصورة ، ما تزال الفجوة كبيرة بين التعهدات المناخية للدول المتمثلة في المساهمات المحددة وطنياً(NDCs) والتنفيذ الفعلي على الأرض. تقرير فجوة الانبعاثات الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) يؤكد أن العالم بعيد عن المسار المطلوب للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن. كما أن التمويل المناخي الموعود للدول النامية – والبالغ قيمته 100 مليار دولار سنوياً – لم يتحقق بشكل كامل، ما يزيد من حالة الإحباط وفقدان الثقة بين دول الشمال والجنوب.
في هذا السياق، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش لعقد قمة استثنائية في 24 سبتمبر 2025 على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة، لتكون منصة لإعلان خطط وطنية جديدة وتسريع التمويل المناخي قبل مؤتمر الأطراف COP30 في بيليم بالبرازيل. هذه القمة ليست مجرد لقاء بروتوكولي لالتقاط الصور، بل لحظة اختبار حقيقية؛ إما أن تُقدّم الدول خططاً ملموسة وقابلة للتنفيذ تضع العالم على مسار حصر الاحترار عند 1.5° مئوية، أو أن تترك الباب مفتوحاً أمام كوارث أكبر وأزمات إنسانية متفاقمة.
تتجلى أهمية هذه القمة في ضوء ما تشهده البشرية من تسارع غير مسبوق في الكوارث المناخية. فنجاحها مرهون بإعادة بناء الثقة بين الشمال والجنوب، وتوفير تمويل عادل، ونقل التكنولوجيا، وتعزيز قدرات التكيف، وإلا فإن نتائج مؤتمر متعدد الأطراف COP30 لن تتجاوز كونها شعارات جديدة تُضاف إلى سجل وعود لم تتحقق.
إن صمت المجتمع الدولي أمام تلك التحديات يجعل أي حديث عن العدالة المناخية بلا معنى ما لم يقترن بإرادة سياسية لإنقاذ البشرية. فإما أن تكون هذه القمة نقطة انطلاق لعقد اجتماعي عالمي جديد يقوم على التضامن والمساءلة، أو أن تبقى شاهداً على الفشل الجماعي في مواجهة أخطر تهديد في القرن الحادي والعشرين.








