بينما حققت مصر قفزة كبيرة على مؤشر الأداء البيئي (EPI) الذي يقيس مدى التزام الدول بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، فإنها تعيش صورة اقل تفاؤلا على مؤشر الاقتصاد الأخضر العالمي (GGEI) .
وأوصت دراسة حديثة، بتسريع جهود الدولة في إزالة الكربون من القطاعات المختلفة، وزيادة الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، في إطار التزام مصر برؤيتها الاستراتيجية 2030 لتحقيق التوازن المنشود بين متطلبات النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.
وكشفت الدراسة التي سيتم نشرها كاملة في ديسمبر المقبل بمجلة سوهاج للعلوم الزراعية (JSAS)، أن خطى الدولة تتسارع نحو تبني “الاقتصاد الأخضر” كأحد الركائز الأساسية في خططها الشاملة، إذ تم إطلاق استراتيجية تستهدف تخصيص 30% من مشروعات الخطة الاستثمارية لتلتزم بمعايير الاستدامة البيئية.
وذكرت الدراسة التي حصلت “البورصة” على نسخة منها، أن طموحات التحول الأخضر في مصر ماتزال تواجه تحديات كبرى على المستوى الدولي، إذ تحتل البلاد مرتبة متأخرة في المؤشرات العالمية للاقتصاد الأخضر، ما يستدعي إعادة تقييم الاستراتيجيات المتبعة.
تحمل الدراسة عنوان “أثر الاقتصاد الأخضر في تحقيق النمو والتنمية المستدامة في مصر”، وأجرتها الدكتورة شيماء أحمد، المدرس المساعد بقسم الاقتصاد الزراعي بكلية الزراعة – جامعة سوهاج، وقدمت تحليلًا للواقع المصري، لقياس الأثر الفعلي لمبادرات الاقتصاد الأخضر على النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، بأبعادها الأربعة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتكنولوجية.
مؤشرات مبشرة
أظهرت البيانات تقدم أداء مصر على المؤشرات البيئية الدولية، فوفقاً لمؤشر الأداء البيئي (EPI) الذي يقيس مدى التزام الدول بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حققت مصر قفزة كبيرة في ترتيبها العالمي، بعد أن احتلت المرتبة 127 عند 35.5 درجة عام 2022، إذ نجحت في تحسين مركزها بشكل لافت لتصل إلى المرتبة 101 عام 2024 مسجلة 43.7 درجة، وفي مؤشر حيوية النظام البيئي، انتقلت مصر من المرتبة 95 عام 2022 إلى المرتبة 79 العام الماضي.
وفي مؤشر التغير المناخي، شهدت البلاد تقدماً، إذ قفزت من المرتبة 139 إلى المرتبة 103، مع تحسن تصنيفها من 28.5 درجة إلى 40.4 درجة.
وكشفت البيانات الصادرة عن مؤشر الاقتصاد الأخضر العالمي (GGEI) لعام 2022 أن مصر حققت إجمالا 35.7 درجة.
ولكن على سبيل المثال، في محور “البيئة والزراعة”، سجلّت مصر أعلى أداء بين المؤشرات الفرعية عند 58.4 درجة، وفق البيانات التي اعتمدت عليها الدراسة.
وفي المقابل، أظهر المؤشر أن هناك حاجة لمزيد من الجهد في محور “إزالة الكربون من القطاعات”، إذ لم تتجاوز مصر 22.2 درجة، ما يمثل تحديًا يتطلب سياسات أكثر حزماً لخفض الانبعاثات الكربونية في مختلف القطاعات الصناعية والنقل.
تناقضات لابد أن تُواجه
كشفت الدراسة عن صورة متناقضة لأداء مصر في المؤشرات الدولية المتعلقة بالاستدامة.
فمن ناحية، يظهر مؤشر الأداء البيئي (EPI) تقدمًا ملحوظًا، إذ قفزت مصر من المرتبة 127 عالميًا عام 2022 إلى المرتبة 101 عام 2024، محققة تقدمًا بمقدار 26 درجة.
ويعود هذا التقدم، إلى صعود التصنيف في مؤشر “التغير المناخي” الذي قفزت فيه مصر 36 درجة، وفي مؤشر “حيوية النظام البيئي” الذي تقدمت فيه 20 درجة.
ورغم هذا التقدم، كشفت الدراسة أن مؤشر “الصحة والبيئة” شهد تراجعًا بمقدار 13 درجة، ما يشير إلى وجود تحديات لاتزال قائمة في ذلك المجال الحيوي.
ويقدم مؤشر الاقتصاد الأخضر العالمي (GGEI) صورة أقل تفاؤلًا لمصر، ففي عام 2022، احتلت البلاد المرتبة 155 من بين 160 دولة في المؤشر، ما وضعها ضمن الدول الـ10 الأسوأ أداءً في المؤشر، وفي المرتبة 12 من بين 18 دولة عربية.
وكشف تحليل المؤشر عن وجود فجوة كبيرة بين الأداء الحالي لمصر والمستوى المطلوب لتحقيق أهداف الاستدامة العالمية، إذ بلغت الفجوة 31.7%.
الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة
أظهرت نتائج الدراسة، أن التحول نحو الاقتصاد الأخضر له تأثير قوي وإيجابي على النمو الاقتصادي (GDPPC) في مصر، مشيرة إلى أن نحو 80.78% من أثر نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي متعلق بالتحول نحو الاقتصاد الأخضر.
أضافت الباحثة، أن ثمة علاقة قوية ومباشرة بين الاستثمار في المشاريع الخضراء والنمو الاقتصادي، إذ أظهرت الدراسة أن الاقتصاد الأخضر محرك رئيس لتحقيق الأهداف الاقتصادية، فأكثر من 96.4% من النمو الاقتصادي يمكن إسناده إلى التحول نحو الاقتصاد الأخضر، ما يجعل العلاقة بينهما قوية.
ولا يقتصر أثر الاقتصاد الأخضر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل الأبعاد الاجتماعية والتكنولوجية.
ففي البعد الاجتماعي، أشارت الدراسة إلى أن مؤشر التنمية البشرية (HD) يتأثر إيجابيا بالاقتصاد الأخضر، إذ إن الأخير له انعكاس إيجابي على جودة الحياة، فأكثر من 93% من تنمية الموارد البشرية يمكن تفسيرها بالتحول نحو الاقتصاد الأخضر.
وأثبت تحليل بيانات الدراسة، أن الإنفاق على التعليم والإنفاق على الصحة لهما تأثير إيجابي على مؤشر التنمية البشرية، ما يعزز الفكرة القائلة إن التنمية الخضراء تسير جنباً إلى جنب مع تحسين الخدمات الأساسية للمواطنين.
وعلى النقيض، كانت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ذات تأثير سلبي على التنمية البشرية، ما يؤكد العلاقة العكسية بين التلوث وجودة الحياة.
وفيما يتعلق بالبعد التكنولوجي، أظهرت الدراسة، أن الاقتصاد الأخضر يحفز التقدم التكنولوجي، مشيرة إلى أن أكثر من 96.5% من التنمية التكنولوجية يمكن تفسيرها بالاعتماد على التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
الطاقة المتجددة
وحسب الدراسة، كان لاستهلاك الطاقة المتجددة تأثير إيجابي كبير يبرز دورها كدافع رئيسى للابتكار التكنولوجي، ما يشير إلى أن المشاريع المرتبطة بالطاقة المتجددة لا تسهم فقط في حماية البيئة، بل أيضاً في بناء قاعدة تكنولوجية حديثة.
تحدي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون
كشفت الدراسة عن علاقة قوية بين الاقتصاد الأخضر ومستويات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مشيرة إلى أن نحو 87.7% من الحد من مستويات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون يمكن تفسيرها بالاعتماد على إستراتيجية الاقتصاد الأخضر.
وأظهر تحليل الباحثة، أن الاعتماد على الوقود الأحفوري له تأثير “مباشر” على زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مشيرة إلى ضرورة تسريع وتيرة الانتقال من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، للحد من الانبعاثات.
وفي المقابل، كانت الطاقة المتجددة ذات تأثير “سلبي” على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ما يؤكد أن زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة يسهم في تقليل التلوث بشكل فعال.
هدف واحد
تعليقا على الدراسة، قال الدكتور خالد هاشم أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة وإدارة الأعمال – جامعة حلوان، إن الاقتصاد الأخضر ليس مجرد مفهوم بيئي، بل محرك رئيس للنمو الاقتصادي، إذ أن هناك علاقة تكاملية بين الاقتصاد الأخضر والمستقبل التنموي.
وأوضح لـ”البورصة”، أن تطبيق استراتيجيات الاقتصاد الأخضر، يعد أحد أهم الآليات التي يمكن أن تنشط الاقتصاد العالمي في مواجهة الأزمات، لأنه يخلق نوعاً من التناغم بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، وتحقيق الأبعاد الاجتماعية للتنمية، حسب وصفه.
أشار هاشم، إلى الحاجة الماسة لزيادة الاستثمارات العامة والخاصة التي تستهدف خفض انبعاثات الكربون وتحسين كفاءة الطاقة، مشيرًا إلى وجوب إطلاق المشاريع الخضراء، بدءاً من استراتيجيات التنمية الصناعية منخفضة الكربون وصولاً إلى التوسع في استخدام الطاقة المتجددة، كمسار لتشجيع الأنشطة الاقتصادية شبه الخالية من الكربون.
وكشف أهمية إعادة توجيه أنماط الإنتاج والاستهلاك الحالية، عبر تحويل الأنشطة الاقتصادية إلى أنشطة خضراء، من خلال زيادة الاستثمارات في المنتجات والخدمات البيئية وتطوير البنية التحتية الطبيعية من غابات ومسطحات مائية، مشيرًا إلى أن الحكومة عليها التدخل بالضرائب والحوافز والدعم لإعادة تصميم تلك الأنماط.
وطالب هاشم، بمراجعة السياسات الحكومية كخطوة أساسية في سياسة تغيير أنماط الإنتاج وتشجيع المستهلكين على تبني خيارات أكثر استدامة، مع إيلاء الزراعة والأنشطة الخضراء اهتماماً خاصاً، مع المحافظة على الغابات واستخدامها كموارد اقتصادية مهمة، لتحسين مستوى المعيشة لسكان الريف.
الاقتصاد الأخضر والاستدامة
وقالت الدكتورة هيام زيدان، مدرس الاقتصاد بمعهد الألسن العالي للسياحة والفنادق والحاسب الآلي، إن استثمار دول العالم نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي لها في قطاعات الاقتصاد الأخضر، يمكن أن يؤدي إلى خفض كثافة استخدام الطاقة بنسبة 36% عالميًا، ما يقلل الانبعاثات الكربونية ويترجم إلى وفر مالي يصل إلى 670 مليار دولار سنويًا في مجال توليد الكهرباء، ويوفر الطاقة لأكثر من 1.4 مليار شخص حول العالم.
أضافت لـ”البورصة” أن أعلى معدلات الفقر عالميًا توجد في أفريقيا، ورغم ذلك انخفضت معدلات الفقر بنسبة 14.3% بين عامي 2000 و2018 بفضل إنفاق نحو 6.8 مليار دولار على مجالات الاقتصاد الأخضر، ما أدى إلى زيادة متوسط دخل الفرد في دول القارة.
وفيما يخص الوضع المصري، أكدت أن الرؤية المستقبلية واضحة وطموح، متوقعة ارتفاع معدل النمو من 4.2% إلى 12%، بحلول عام 2030، وذلك النمو سيؤدي إلى خفض معدل الفقر من 26.3% في 2015 إلى 15% فقط بحلول 2030.
الزراعة على رأس الاستدامة
أكد الدكتور شادي شحادة، محاضر الاقتصاد الدولي والتجارة الدولية بأكاديمية الجزيرة العليا، أن الزراعة هي العمود الفقري لأي اقتصاد مستدام، موصيًا بالتوسع في الاستثمارات المحلية بقطاع الزراعة، مع التركيز على الحفاظ على المياه العذبة المستخدمة في الصناعة، من خلال التوسع الأفقي عبر إضافة أراضٍ زراعية جديدة وتوفير مياه الري لها، بالإضافة إلى تطبيق الزراعة الصفرية، والتوسع الرأسي باستخدام الأساليب العلمية والتكنولوجيا الحديثة لرفع كفاءة الإنتاج.
أضاف لـ”البورصة”، أن رفع كفاءة استخدام المياه في الزراعة، يكون عبر تحديد المشاريع ذات الأولوية، مثل مشروعات أنظمة الري الحقلي الحديثة، إضافة إلى استنباط سلالات جديدة للمحاصيل الزراعية تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وتستهلك كميات أقل من المياه، ما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي في ظل التغيرات المناخية.
وأوصى بتبني وسائل غير تقليدية لتوصيل الخدمات الصحية إلى الفئات الأكثر هشاشة والمهمشة، مع تحديد وتوصيف وحماية تلك الفئات صحياً لضمان حصولها على الرعاية اللازمة، مشيرًا إلى ضرورة تبني تقنيات متقدمة مثل فصل ثاني أكسيد الكربون من مصادره المرتبطة بالصناعة والطاقة، ونقله إلى مواقع تخزين مخصصة.
وذكر أن النفايات المحلية مواد خام ثمينة يمكن تسخيرها للاقتصاد الدائري، ولا تتطلب سوى توظيف القوانين المناسبة التي تضع معايير بيئية واضحة ومُلزمة لجميع القطاعات في ذلك الشأن.
