المدينة الاسكتلندية تفقد 18 ألف وظيفة منذ عام 2010 نتيجة انكماش قطاعي النفط والغاز
في أوائل التسعينيات، كان هناك صرّاف آلي واحد في شارع “يونيون ستريت” الفخم بمدينة أبردين الساحلية شمال شرق اسكتلندا، يسجل أعلى قيمة سحب نقدي في أوروبا.
جذبت التقنيات البحرية المتطورة التي أُطلقت عقب أزمة الطاقة عام 1973 كبار المنتجين إلى “عاصمة النفط الأوروبية”، مما أدى إلى ارتفاع الأجور وأسعار العقارات، وانتشار أنماط الاستهلاك الفاخر.
لكن ثالث أكبر مدينة في اسكتلندا، وعلى عكس غيرها من مراكز الوقود الأحفوري، كافحت للتعافي من الانهيار العالمي لأسعار النفط عام 2014، حين تراجعت الأسعار بنسبة 75% خلال عامين لتصل إلى 27 دولاراً للبرميل.
وخلال العقد التالي، بلغ متوسط الأسعار أكثر من 65 دولاراً للبرميل، ما ساعد على عودة النمو في مدن نفطية مثل دبي وهيوستن، حيث استفادت من انتعاش النشاط في قطاعات النفط والغاز.
كثيرون في أبردين يلقون باللوم على السياسات الحكومية المتعاقبة، من ضرائب مرتفعة إلى حوافز استثمارية غير كافية، أكثر من تحميل التراجع لجيولوجيا الحوض النفطي المتهالك، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ومع بحث حكومة حزب العمال البريطاني عن ملامح سياستها المستقبلية في مجال الطاقة هذا الخريف، مازالت أيام المجد في أبردين حبيسة الماضي.
قال رجل الأعمال بوب كيلر، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “وود جروب” الذي بدأ عمله في قطاع النفط والغاز عام 1986: “لقد جعلت الحكومات الاستثمار هنا أمراً صعباً ــ ورأت أبردين العواقب”.
قبل سنوات قليلة، عكست صفوف المتاجر المغلقة في “يونيون ستريت” تراجع المدينة الأوسع، إذ ظل ربع الوحدات التجارية البالغ عددها نحو 200 وحدة شاغراً.
عمل كيلر لاحقاً على تشجيع الشركات على الانتقال إلى وسط المدينة المبني من الجرانيت، ما خفّض عدد المتاجر المغلقة من 48 إلى 23 متجرا.
ويمتد ضعف قطاع الوقود الأحفوري التاريخي، ليؤثر في اقتصاد شمال شرق اسكتلندا الأوسع، إذ يعمل واحد من كل ستة موظفين في الطاقة البحرية، وثلثهم في النفط والغاز.
وبحسب شركة “إي واي”، فقدت أبردين نحو 18 ألف وظيفة، أي ما يعادل 10% من القوة العاملة، منذ عام 2010، نتيجة لانكماش قطاع النفط والغاز المحلي.
تثير مخاوف الصناعة بشأن مستقبل المدينة انتقادات واسعة لقرار الحكومة البريطانية إنهاء تراخيص الحفر الاستكشافي الجديدة في بحر الشمال.
ويقول لوبي النفط، إن خفض ضريبة الأرباح الاستثنائية وزيادة الحوافز الاستثمارية سيسمح بتغطية نصف احتياجات المملكة المتحدة من النفط والغاز محلياً بحلول 2050، مقارنةً بالتوقعات الحالية التي تقل عن الثلث، لكن نشطاء المناخ يرون أن مطاردة آخر براميل الوقود الأحفوري من حوض بحر الشمال الناضج ستعرقل تحقيق الأهداف البيئية الملزمة قانوناً.
وقالت وزارة أمن الطاقة وصافي الصفر: “إن أبردين في صميم مهمتنا للطاقة النظيفة .. نحن نضمن انتقالاً عادلاً ومزدهراً في بحر الشمال”.
ورغم أن العديد من التنفيذيين في أبردين يؤيدون شعار “احفروا يا اسكتلندا” الذي رفعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإنهم ينتقدون معارضته لمزارع الرياح، فهم يرون أن إنهاء استخراج النفط والغاز مبكراً سيؤدي إلى تفريغ سلسلة التوريد المحلية اللازمة لطاقة الرياح البحرية.
وبحسب تقرير حديث لجامعة روبرت جوردون، فإن القوى العاملة البحرية في اسكتلندا مرشحة للانخفاض من 75 ألفاً العام الماضي إلى ما بين 45 ألفاً و63 ألفاً في أوائل الثلاثينيات، ما يفرض على البلاد “الاستحواذ على حصة كبيرة من أنشطة الطاقة المتجددة المستقبلية”.
لكن التقرير حذر من أن قطاع الطاقة المتجددة في اسكتلندا، الذي يواجه تحديات مثل بطء الموافقات وارتفاع تكاليف النقل، قد يفشل في خلق وظائف كافية لتعويض خسائر قطاع الوقود الأحفوري، ومن بين الشركات الرائدة في التحول “نورث ستار” ومقرها أبردين.
ففي السنوات الخمس الماضية، تحولت الشركة من تخصيص جميع عقودها لقطاع الوقود الأحفوري إلى تخصيص 70% منها للطاقة المتجددة، وفقاً لما قالته المديرة التنفيذية جيتا جارد تالمو.
وأضافت تالمو، النرويجية التي انتقلت إلى اسكتلندا العام الماضي، أنها توقعت منافسة مزدحمة على أعمال طاقة الرياح البحرية بينما يحقق قطاع النفط والغاز أداءً جيداً، لكنها أوضحت: “في الواقع، تبين أن الأمر يسير بالعكس، بسبب السياسات التي أضعفت التوقعات للشركات النفطية الرئيسية في أبردين”.
وقال راسل بورثويك، من غرفة تجارة أبردين وجرامبيان، إن المنطقة التي كانت تتصدر مؤشرات ثقة الأعمال تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وأضاف: “نحن الآن في القاع تقريباً على كل مؤشر، اليد التي غذّتهم على مدى 50 عاماً توقفت عن العطاء”.
وتظهر علامات التأجير على القصور الفيكتورية في حي “ويست إند” الراقي، صورة أوضح لتدهور اقتصاد أبردين، حيث يجري تحويل بعض المكاتب الكبرى إلى مساكن بسبب انخفاض الطلب التجاري.
في تسعينيات القرن الماضي، نافست أبردين لندن في ذروة ازدهارها، وكان سوق العقارات فيها مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بأسعار النفط، وكانت الشركات النامية تستقطب الخريجين، فيما يشترى المديرون التنفيذيون الميسورون منازل ثانية.
ورغم أن سوق العقارات في أبردين تعافى أسرع من مدن أخرى بعد الأزمة المالية العالمية، فإنه ظل يعاني خلال العقد الماضي، وفق ما أشار كريس كومفرت، الشريك في شركة “أبردين كونسيدين”.
وقال: “تأخر الاستثمار في الطاقة المتجددة أدى إلى مغادرة عدد من العمالة الماهرة”، أما نيك دالجارنو من بنك الاستثمار “بايبر ساندلر”، فأكد أن انتقال الموظفين إلى أسواق ذات نظم ضريبية أكثر ملاءمة، خصوصاً الخليج الغني بالنفط، “هو الأكثر إثارة للقلق”.
وأعلنت بعض الشركات مثل “هانتينج” المدرجة في لندن خططها للتوسع في الخليج، فيما تعزز أخرى وجودها في الشرق الأوسط بعيداً عن الأضواء.
وتلقت “وود جروب” عرض استحواذ من شركة “سيدارا” التي تتخذ من دبي مقراً لها، وقال دالجارنو: “إن خروج أصحاب الدخل المرتفع لا يضر أبردين فقط، بل المملكة المتحدة ككل، يمكن إبطاء هذا النزيف، لكن هناك الكثير مما يجب فعله”، ومن بين هؤلاء العاملين جافن، الذي عمل في قطاع أعماق البحار في بحر الشمال لمدة 25 عاماً، قبل أن تتراجع الفرص قبل سنوات قليلة.
التغييرات الضريبية على المتعاقدين كانت ستقلص دخله بشكل كبير، بينما قوّض فرض ضريبة الأرباح النفطية عام 2022 ثقة الصناعة.
ومع وعود حزب العمال برفع الضريبة أكثر وإنهاء الحفر الجديد في بحر الشمال، قرر جافن “القفز من السفينة” قبل الانتخابات العامة العام الماضي، وقد التحق بشركة بحرية في قطر، حيث جاء 5 من أصل 40 موظفاً من أبردين.
وقال المهندس البالغ من العمر 52 عاماً، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه الكامل: “النفط والغاز ليسا كلمات قذرة هنا كما في المملكة المتحدة، لا أرى أي حافز للعودة إلى الوطن”.








