على مدى أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة، رهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقاءه السياسي والشخصي باستمرار حرب روسيا على أوكرانيا.
وطالما أن الصراع يمثل ركناً أساسياً في قبضته على السلطة، سيواصل القتال متجاهلاً الخسائر البشرية والمادية، ورغم أن العقوبات الغربية الحالية تركت أثراً ملموساً، إلا أنها لم تكن دقيقة بالقدر الكافي.
فلايزال المجهود الحربي الروسي صامداً مالياً، ليس لأن العقوبات فشلت كلياً، بل لأنها تركت مصدر الدخل الأهم لروسيا سليماً إلى حد كبير، وهو صادرات النفط والغاز.
تمول مبيعات النفط والغاز ما يقارب ربع نفقات الكرملين الحربية، ففي عام 2024 ارتفعت عائدات النفط وحدها بأكثر من 25% لتتجاوز 108 مليارات دولار رغم العقوبات، بحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ومنذ عام 2023، أصبحت الصين والهند وتركيا العمود الفقري لصادرات النفط الروسي، إذ اشترت مجتمعة ما يقرب من 380 مليار دولار من الخام الروسي، وهذا يمنح بوتين شريان حياة يمكنه من تمويل الحرب بتكلفة تقارب مليار دولار يومياً.
كان الهدف من سقف الأسعار الذي حددته مجموعة السبع للنفط الخام عند 60 دولاراً للبرميل في أواخر عام 2022 هو الحد من أرباح موسكو مع الحفاظ على استقرار الإمدادات العالمية، غير أن هذا النظام تآكل بفعل ضعف الامتثال وضعف آليات التنفيذ.
ورغم خفض الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ، مؤخراً ، سقف السعر إلى 47.60 دولار، تمكنت روسيا من استخدام “أسطول الظل” من الناقلات القديمة وشركات التأمين الغامضة والشركات الوهمية لإخفاء الملكية وتجاوز العقوبات وبيع معظم خامها بأسعار تفوق السقف.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 75% من النفط الخام الروسي يُنقل حالياً خارج أنظمة التأمين والتتبع الخاصة بمجموعة السبع، كما أصبحت مواصلة أوروبا الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال الروسي، شريان حياة آخر لبوتين.
فمنذ فبراير 2022، استورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 122 مليار دولار من الغاز الروسي المسال، ليصبح أحد أكبر عملاء روسيا في الوقود الأحفوري.
ويُبرز هذا الاعتماد المستمر على الطاقة الروسية الحاجة الملحة إلى نهج أكثر شمولاً وتنسيقاً في فرض العقوبات.
فكيف يمكن للغرب قطع هذا الشريان الحيوي بفعالية أكبر؟
الجواب يكمن في تهديد المصافي التي تعالج الجزء الأكبر من الخام الروسي، والمتركزة إلى حد كبير في ثمانية مرافق فقط عبر الصين والهند وتركيا.
فمصافٍ مثل جامناجار وفادينار في الهند، ومنشأتي ستار وتوبراش في تركيا، والمصافي الصينية الكبرى تدير معظم التدفقات الروسية المعاد توجيهها.
بعض هذه المصافي، مثل مجمع جامناجار التابع لشركة “ريلاينس إندستريز”، يعالج مئات الآلاف من البراميل يومياً.
بينما أصبحت منشأة فادينار التابعة لشركة “نايـارا إنرجي”، المملوكة جزئياً لشركة “روسنفت” الروسية، تعتمد بالكامل تقريباً على الخام الروسي.
ينبغي على الغرب أن يضع إنذاراً واضحاً، أي مصفاة تعالج النفط الروسي، سواء كان مخصصاً للتصدير أو للاستهلاك المحلي، عليها أن تختار.
فإما أن تقطع روابطها في مجال الطاقة مع روسيا، أو تواجه حظراً شاملاً من الشحن والتمويل والتأمين الغربي إذا استمرت في شراء الخام الروسي.
هذه ليست دعوة لمعاقبة الهند أو تركيا، بل لتوضيح أن المشاركة المشروعة في التجارة العالمية لا يمكن أن تتعايش مع غسل عائدات حرب روسيا.
رغم أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات مباشرة تحد من عائدات إيران النفطية، إلا أنها لم توقف صادراتها إلى الصين، التي تشتري الآن أكثر من 1.4 مليون برميل يومياً من الخام الإيراني عبر وسطاء غامضين وبخصومات كبيرة.
ويُظهر هذا درساً أساسياً، وهو أنه يجب ألا تستهدف العقوبات المنتج فقط، بل أيضاً المستهلكين الرئيسيين والشبكات التي تمكنهم.
وينبغي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توسيع العقوبات الثانوية لتشمل المؤسسات المالية وشركات الشحن التي تسهل تجارة الطاقة الروسية غير المشروعة، على غرار النهج الثانوي المتبع ضد إيران.
تؤتي العقوبات الأوروبية لعام 2025 بعض ثمارها، إذ تحظر استيراد المنتجات من المصافي التي تستخدم الخام الروسي، بغض النظر عن مكان خلطها أو إعادة تصنيفها.
فعلى سبيل المثال، تم قطع شركة “نايارا إنرجي” الهندية عن كبار الموردين الخليجيين، مما دفعها إلى زيادة اعتمادها على البراميل الروسية المخفضة السعر، وهو ما يعد مؤشراً على النجاح الأولي للعقوبات، لكن هذه النتيجة بالذات، تضييق قاعدة المشترين الشرعيين وتقليص هوامش أرباح الكرملين، هي ما يجب تسريعه.
فمع هذه الإجراءات، سيُجبر النفط الروسي على التوجه أكثر نحو المشترين في السوق السوداء بأسعار منخفضة ومؤلمة تتراوح بين 20 و30 دولاراً للبرميل بدلاً من أكثر من 60 دولاراً.
وقد يؤدي ذلك إلى خفض عائدات النفط الروسية بمقدار ثلاثة أرباع، ما يوفر ورقة ضغط استراتيجية كافية لإجبار بوتين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
تُقدر تكلفة إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب بأكثر من نصف تريليون دولار، وتمويل هذا الجهد يتطلب ضمان ألا يستمر أي دولار أو روبية أو يوان في تغذية آلة الحرب في الكرملين.
ويجب على القادة الغربيين أن يتحلوا بالشجاعة لتنفيذ هذه الاستراتيجية حتى نهايتها، فالنفظ الخام والمنتجات المكررة والغاز الطبيعي المسال تبقى شرايين نظام بوتين، وقطعها لا يُعد فقط أوضح طريق لإنهاء حرب روسيا، بل ربما يكون الطريق الوحيد.








