“شميت أوتوموتيف ريسيرش” تستبعد تبادل المعرفة ونقل التكنولوجيا
في مدينة ديبريسن، ثاني أكبر مدن المجر، يضع العمال اللمسات الأخيرة على مصنع بطاريات ضخم أنشأته شركة “كاتل” الصينية لتزويد شركات أوروبية لصناعة السيارات مثل “بي إم دبليو” و”مرسيدس” وغيرها.
ويمثل المصنع، الممتد لمسافة ميل كامل، جزءاً من موجة الاستثمارات الصينية التي انتشرت في أوروبا الوسطى والشرقية مباشرة بعد جائحة كوفيد-19، وتركزت على بناء مصانع للبطاريات والسيارات الكهربائية.
لكن بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على إعلان “كاتل” مشروعها الأخضر البالغ قيمته 7.3 مليار يورو، فإن ضعف الطلب على السيارات الكهربائية في أوروبا يدفع إلى مراجعة حجم المشروع.
فقد ارتفعت المرحلة الأولى من المشروع بنسبة 20% لتصل إلى 40 جيجاوات في الساعة، لكن المرحلتين التاليتين قيد “إعادة النظر” وفقاً لحجم الطلب في السوق، بحسب مسئولي الشركة، الذين أشاروا إلى دراسة إنتاج تقنيات أخرى غير بطاريات الليثيوم أيون التي صُمّم مصنع ديبريسن لإنتاجها.
تعكس هذه الخطوة توقعات أوسع بتباطؤ الاستثمارات الصينية في المشاريع الجديدة داخل أوروبا، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
قالت أجاثا كراتس، من شركة الاستشارات “روديوم جروب”، إن مزيجاً من التوترات التجارية، والتعقيدات السياسية المرتبطة بدعم الصين لروسيا، وضعف سوق السيارات الكهربائية الأوروبية نسبياً، قلل من جاذبية الاستثمار الصيني داخل الاتحاد الأوروبي.
في إشارة جديدة إلى أن المنافسة الجيوسياسية تؤثر على قرارات سلاسل الإمداد والاستثمار، كشفت بكين في وقت سابق من هذا الشهر عن ضوابط تصدير شاملة للمعادن النادرة والمعادن الحيوية.
وقالت كراتس: “من المرجح أن نشهد تباطؤاً في وتيرة المشاريع الصينية الجديدة داخل الاتحاد الأوروبي وفي أوروبا عموماً في ظل التوترات السياسية”.
وأفاد تقرير صادر في مايو عن “روديوم” ومعهد “ميريكس” الألماني للدراسات الصينية، بوجود “تراجع حاد” في قيمة المشاريع الصينية الجديدة الخاصة بالسيارات الكهربائية في أوروبا خلال عام 2024.
ووفقاً لبيانات “روديوم”، كانت المجر إحدى أبرز المستفيدين من الاستثمارات الصينية في قطاع السيارات الأوروبي بعد الجائحة.
إلا أن بيانات قاعدة “إف دي آي ماركتس” التابعة لصحيفة “فاينانشيال تايمز” أظهرت تراجع عدد المشاريع الجديدة المُعلنة في المجر من 15 مشروعاً في 2023 إلى 7 فقط العام الماضي.
اتجهت الاستثمارات الصينية في قطاع السيارات نحو جنوب شرق آسيا للاستفادة من الأسواق الأسرع نمواً والبنية التحتية القائمة لمصانع السيارات والبطاريات هناك.
قال أندرياس ميشر من معهد “ميريكس” إنه لا مؤشرات على استثمارات صينية كبيرة في قطاعات أخرى داخل الاتحاد الأوروبي لتعويض هذا التراجع.
وأضاف: “في عام 2024، كان القطاع الوحيد خارج السيارات الذي شهد مشاريع خضراء هو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لكنها لم تتجاوز 500 مليون يورو، أي نحو عُشر حجم استثمارات السيارات، لذا لا نتوقع أن تكون بديلاً فعلياً”.
وقد أثر الخلاف القائم مع بكين بشأن مطالبة أوروبا بنقل التكنولوجيا الصينية مقابل السماح بالاستثمار، في تراجع التوقعات نحو موجة استثمار جديدة.
وأشار تقرير رسمي لاجتماع وزيري الاقتصاد الفرنسي والألماني في يوليو إلى أنه في القطاعات الحيوية مثل البطاريات، حيث تكافح أوروبا لتأسيس شركات محلية منافسة، يجب أن تكون الاستثمارات الصينية “مرتبطة بنقل التكنولوجيا”.
لكن تحرك “كاتل” لإرسال آلاف العمال لبناء وتجهيز مصنع بقيمة 4 مليارات يورو في إسبانيا ضمن مشروع مشترك مع “ستيلانتس” آثار تساؤلات حول مدى استعداد الشركات الصينية لمشاركة المعرفة الصناعية.
قال ماتياس شميت، المحلل المستقل لدى “شميت أوتوموتيف ريسيرش”: “لا أتوقع أن يحدث الكثير من تبادل المعرفة أو نقل التكنولوجيا”، مشيراً إلى المفارقة في أن شركات السيارات الغربية كانت مجبرة على الدخول في اتفاقيات نقل تكنولوجيا عند استثمارها في الصين خلال العقود الماضية.
وأضاف أن “الشركات الأوروبية في الصين اضطرت للدخول في مشاريع مشتركة محلية أكسبتها مهارات إنتاج المركبات، والآن الطاهي المساعد افتتح مطعمه الخاص في الجوار”.
في خطوة إضافية لتقييد التدفقات، حذرت المفوضية الأوروبية من أنها ستكثف مراقبة الاستثمارات الصينية في أوروبا باستخدام لائحة الدعم الأجنبي التي تتيح لبروكسل حظر الشركات المدعومة بشكل غير عادل من حكومات أجنبية.
كما فرضت المفوضية العام الماضي رسوماً جمركية تصل إلى 35% على بعض السيارات الكهربائية الصينية المستوردة إلى الاتحاد الأوروبي، معتبرة أن “الدعم غير العادل” للشركات الصينية يشكل تهديداً بإحداث “ضرر اقتصادي” لمصنعي السيارات المحليين.
ويمكن لمصنعي السيارات الكهربائية الصينيين التحايل على هذه الرسوم من خلال إنشاء المزيد من المصانع داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه الرسوم، التي لا تشمل السيارات الهجينة القابلة للشحن، ربما لن تكون مرتفعة بما يكفي لإحداث تحول كبير، بحسب كراتس، خاصة في ظل المخاطر التنظيمية الأخرى.
كما أن دعم الرئيس الصيني شي جين بينج لنظيره الروسي فلاديمير بوتين خلق مناخاً سياسياً أكثر عداءً في الاتحاد الأوروبي تجاه الاستثمارات الصينية، رغم استمرار المجر في الحفاظ على علاقات وثيقة مع بكين.
قال ميخاو بارانوفسكي، نائب وزير التنمية والتكنولوجيا في بولندا، إن بولندا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي باتت الآن “أكثر وضوحاً” بشأن الاستثمارات الصينية وتطالب بعلاقة أكثر توازناً مع بكين.
وأضاف أن “العلاقة المتوازنة تعني النظر إلى الاستثمارات الصينية من زاوية نقل التكنولوجيا والمعرفة، كما استفادت الصين من الاستثمارات الأوروبية في الماضي”.
من جانبه، قال وزير المالية البولندي الأسبق جريجورز كولودكو إن موقف إدارة دونالد ترامب العدائي تجاه بكين سيجعل الدول الأوروبية أكثر حذراً في قبول استثمارات مستقبلية من الشركات الصينية.
وحذر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت من أنه إذا مضت بكين قدماً في فرض قيودها على تصدير المعادن النادرة، فإن الولايات المتحدة وبقية دول العالم “ستضطر إلى فك الارتباط الاقتصادي” مع الصين.
وأضاف كولودكو، مؤلف كتاب عن التوسع العالمي للصين: “الرئيس الأمريكي لا يحتاج إلى قول شيء، فالناس هنا يعلمون أن الاستثمارات الصينية المستقبلية لن تكون موضع ترحيب من الأمريكيين”.
ورغم كل ذلك، لا يعني الأمر أن النفوذ الصيني سيختفي تماماً من أوروبا، نظراً لحجم الاستثمارات التي أُعلنت بعد الجائحة.
مع قدوم نسبة كبيرة من القوى العاملة في مصنع ديبريسن من الصين، أصبح وجود الأجانب أمراً مألوفاً في مدينة كانت في السابق مجتمعة تكاد تكون مجرية بالكامل.
وقال عمدة ديبريسن لازلو باب: “بدأت هذه الصناعة بتأثير محلي وإقليمي، لكنها اليوم جعلت من ديبريسن لاعباً عالمياً في هذا المجال”.








