كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن تحب استخدام مصطلح “فناء صغير، وسياج عالٍ” عند وصفها للقيود المفروضة على تصدير الرقائق المتقدمة.
كانت الفكرة تقوم على أن التكنولوجيا الأمريكية المتخصصة للغاية يجب حمايتها، لكن تلك الحماية محدودة ولا تعيق التجارة الأوسع.
كانت دقة هذا المفهوم دائماً محل نقاش، نظراً للأهمية المركزية لأشباه الموصلات في الذكاء الاصطناعي، لكن الواضح الآن أن أحدث جولة من القيود الانتقامية التي فرضتها الصين على الصادرات، هي جزء من استراتيجية لا تهتم مطلقاً بتقليص الأثر، فيما وجدت أوروبا نفسها في مرمى النيران المتبادلة.
فالقيود الصينية الجديدة على تصدير العناصر النادرة ستؤدي، في الحد الأدنى، إلى ارتفاع الأسعار وجعل التصنيع غير الصيني أقل تنافسية.
وهذا بحد ذاته يُعد مكسباً لبلد يعاني فائضاً صناعياً مستمراً ويرى في زيادة الصادرات وسيلة لتعزيز قوته الوطنية، بحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
الأسوأ للشركاء التجاريين، هو احتمال تجدد نقص المغناطيسات المصنوعة من العناصر النادرة، إذ تسببت التأخيرات الناتجة عن القيود الصينية على الصادرات في وقت سابق من هذا العام في تعطيل صناعة السيارات من ولاية إيلينوي إلى الهند، وقد رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتهديدات بفرض تعريفات جمركية جديدة.
أما أوروبا، التي شعرت بتأثير أقل لنقص العناصر النادرة في الربيع الماضي، فتقف الآن في قلب صراع سلاسل الإمداد.
في أوائل أكتوبر، سيطرت الحكومة الهولندية على شركة تصنيع الرقائق “نكسبيريا” التي تتخذ من هولندا مقراً لها والمملوكة للصين، مشيرةً إلى “أوجه قصور في الحوكمة” وتهديد للقدرات التكنولوجية الأوروبية.
وردّت بكين بإيقاف المبيعات الخارجية لرقائق “نكسبيريا” المُصنَّعة في أوروبا والتي يُعاد تغليفها في مدينة دونغوان الصينية، وبحسب تقارير محلية، تُستخدم رقائق “نكسبيريا” المغلّفة في الصين من قِبل 49% من شركات السيارات الأوروبية، و86% من شركات الأجهزة الطبية، و95% من قطاع الهندسة الميكانيكية، فضلاً عن كامل قطاع الدفاع في القارة.
وتواجه القاعدة الصناعية الغربية بأكملها تحديات خطيرة في سلاسل الإمداد ما لم يتم إقناع الصين بإعادة فتح صادرات “نكسبيريا” من دونجوان.
وفيما تتفاوض الحكومة الهولندية وغيرها من الحكومات الأوروبية مع بكين، يدعو بعض المحللين إلى اتباع استراتيجية “التصعيد بغرض التفاوض”، والتي قد تشمل تقليص مبيعات أدوات تصنيع الرقائق والمكونات الجوية للصين، وتسعى بكين وبروكسيل وواشنطن جميعاً لإيجاد الطرق الأكثر فاعلية ولا تماثلية لتعطيل سلاسل الإمداد لدى خصومها.
فليس سراً أن الشركات المصنعة تجد صعوبة في فهم عمق سلاسل الإمداد الخاصة بها، إذ يمكن أن تمر عشرات العمليات بين المواد الخام والمنتجات النهائية، أما الحكومات فتمتلك رؤية أقل من ذلك.
وربما تهدف تدابير الصين المتعلقة بالعناصر النادرة، التي تُلزم الشركات متعددة الجنسيات بالحصول على تراخيص، جزئياً إلى منح بكين رؤية أوسع لسلاسل الإمداد، وهذا يعني قدرة أكثر دقة على استهداف أي قيود مستقبلية.
أما التحدي الثاني فيكمن في إيجاد إجراءات ذات كُلفة غير متماثلة، فالحرب الاقتصادية ضد الدول الصغيرة تُعد سياسياً أمراً بسيطاً.
والعقوبات التي تفرض التكلفة نفسها على الولايات المتحدة وكوريا الشمالية قد تؤثر بشدة على بيونج يانج، لكنها بالكاد تُلاحظ داخل الاقتصاد الأمريكي الضخم، أما بالنسبة لأكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، فإن الإجراءات الوحيدة التي تمنح نفوذاً حقيقياً هي تلك التي تفرض كلفة أعلى بكثير على الخصم، مقارنة بتكلفتها على الذات.
النوع الأهم من الكلفة هنا ليس اقتصادياً بل سياسياً، فالصين لاتزال معتمدة على العديد من المنتجات الأجنبية، بما في ذلك الدولار الأمريكي وأشباه الموصلات المصنّعة في تايوان.
مع ذلك، فإن تعطيل تدفق هذه المنتجات، مثل فرض عقوبات على البنوك الصينية الكبرى، سيضرّ بالغرب كما بالصين، كما أن ترامب حساس تجاه أداء سوق الأسهم الذي يتأثر سلباً بأي تصعيد تجاري.
في المقابل، تهيمن المؤسسات المالية الموجّهة من الدولة على سوق الأسهم الصيني، ولا يواجه الرئيس شي جين بينج انتخابات منتصف المدة التي قد تقلقه.
ورغم سعي إدارة ترامب لجعل الصين “مدمنة” على التكنولوجيا الأمريكية، فإن الغرب كان متأخراً في هذه اللعبة.
ففي أبريل 2020، خلال فترات الإغلاق بسبب جائحة كوفيد-19، أعلن شي أن استراتيجية بكين تتمثل في “تشديد اعتماد سلاسل الإنتاج الدولية على الصين”.
كان يُفترض أن تدفع الجائحة مديري المشتريات في العالم إلى التحول من نموذج “في الوقت المناسب” إلى نموذج “في حالة الطوارئ” الأكثر استعداداً للاضطرابات.
لكن بينما تغذي الصين الصناعيين اليائسين بكميات محدودة من العناصر النادرة، يظل نموذج “في الوقت المناسب” محورياً في استراتيجية بكين لإبقاء الشركات العالمية الكبرى معتمدة على إمداداتها.








