“لاجارد” تطالب بإصلاح سنوات من التقاعس وإعادة هندسة الاقتصاد
كانت أوروبا تشعر بأن اقتصادها يفتقر إلى الطاقة، ويواجه حصاراً متصاعداً.
فقد تراجع قطاع التكنولوجيا المتقدمة فيها، بينما واصلت الولايات المتحدة وآسيا، وهما قوتان صناعيتان، تحقيق أداء قوي.
حتى بالنسبة للشركات، بدا أن نقل أبسط الأشياء داخل أوروبا ينطوي على عذاب بيروقراطي.
وتساءل أحد قادة أوروبا: “هل من المبالغة الإعلان عن قرار لإلغاء كل الحدود داخل أوروبا وتنفيذه؟”، ثم أضاف أن “أولئك الذين لا يقدمون شيئاً يُنسون سريعاً أو يُنظر إليهم بازدراء، أما أولئك الذين لا يمتلكون الوسائل لتحقيق طموحاتهم فسرعان ما ينتهون إلى مجرد التبعية”.
كان هذا السياسي هو جاك دولور، وكان العام 1985، ومن المفوضية الأوروبية التي ترأسها خرجت رؤية: السوق الموحد، أكبر اقتصاد تكاملي عابر للحدود في العالم، والذي امتد ليشمل 450 مليون مستهلك.
مع ذلك، وبعد مرور 40 عاماً، فشل هذا المشروع في تحقيق طموحات دولور، ومارجريت تاتشر، والجيل الذي قاد التغيير، بحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
فرغم إزالة الكثير من الحواجز الداخلية أمام السلع بحلول عام 1992، بقيت حواجز، تبدو عصية على الإزالة، داخل الاتحاد الأوروبي أمام الخدمات ورؤوس الأموال وبعض العمالة، وكما حذر دولور، فإن اقتصاد أوروبا “يتخلف خطوة وراء الآخرين”.
خلال 25 عاماً لم يُعترف سوى بخباز فرنسي واحد في ألمانيا
تعادل العراقيل المفروضة على التجارة داخل الاتحاد رسوماً جمركية بنسبة 100% على الخدمات و65% على السلع، وفقاً للبنك المركزي الأوروبي.
بل إن التشابك في القواعد الحمائية بلغ حداً أن خبز الخبز نفسه بات مقيداً، ففي نحو 25 عاماً، لم يُعترف سوى بخباز فرنسي واحد في ألمانيا كـ”مايستر” مرخص له بإدارة مخبز.
لايزال مشروع السوق الواحد قائماً كرمز سياسي في الاتحاد الأوروبي، لكن الطاقة والزخم اللذان قادا هذا المشروع توقفا منذ زمن.
وأحد أنجح مشروعات التحرير الاقتصادي في أواخر القرن العشرين انطفأ ليترك الاقتصاد الأوروبي يعكس قصة تراجع مستمر في القرن الحادي والعشرين.
من هو المسئول في بروكسل الحديثة؟ من الذي قتل حلم السوق الواحد؟
قال باسكال لامي، المفوض الأوروبي الأسبق للتجارة ورئيس مكتب دولور: “نحن نجلس فوق احتياطي هائل من النمو في وقت نحن في أمسّ الحاجة إليه للانتقال الأخضر، والرقمنة، والدفاع، ولمواجهة الشيخوخة السكانية. لايزال هناك الكثير لنفعله، لقد كنا بوضوح بطيئين للغاية”.
وتزداد التحذيرات حدة يوماً بعد يوم.
فقد ناشدت كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، قادة أوروبا الشهر الماضي معالجة “سنوات من التقاعس” وإعادة هندسة اقتصاد “مهيأ لعالم يتلاشى تدريجياً”.
وسعى سلفها ماريو دراجي، العام الماضي، إلى إيقاظ الاتحاد عبر تقرير قاسٍ عن التجزؤ داخل أوروبا الذي أحدث “تأثيرات متسلسلة” على القدرة التنافسية.
فقد دُفعت الشركات عالية النمو إلى الخارج، وتقلّصت الفرص الاستثمارية، وتعرقلت تنمية أسواق رأس المال الأوروبية.
تعهد قادة أوروبا بإطلاق إصلاحات لمعالجة فجوة الإنتاجية التي اتسعت مقارنة بالولايات المتحدة، ونشرت المفوضية برئاسة أورسولا فون دير لايين هذا الصيف استراتيجية للسوق الواحد، ووعدت بخريطة طريق قبل نهاية العام لإعادة تنشيط المشروع.
لكن حتى هذه الخريطة غارقة في صراعات النفوذ داخل المفوضية وبين العواصم الأوروبية، وفق ما يقوله مسؤولون مشاركون في العملية في بروكسل، وسط عراقيل مترسخة تتمثل في المصالح الوطنية، والخطوط الحمراء السياسية، وانعدام الحماسة الذي أعاق التقدم لعقود، وحذر مسئول كبير من “شلل سببه المبالغة في التحليل”.
لقد أعاقت المصالح الراسخة، وتصاعد النزعة المناهضة للاتحاد الأوروبي، والأزمات المتتالية التي استنزفت انتباه صناع السياسات، أي خطوات إصلاحية إضافية في الماضي، ومن المرجح أن تستمر في المستقبل.
في الوقت ذاته، ألغت قواعد وطنية جديدة خاصة بالمنتجات والخدمات بعض التقدم الذي تحقق سابقاً، أما الإنفاذ المركزي للقواعد المشتركة، وهو عنصر أساسي لأي دفع إصلاحي، فقد تلاشى.
الأهم من ذلك هو أن الاتحاد الأوروبي عجز عن استعادة الروح الموحدة التي ميزت بداية مشروع السوق الواحدة في منتصف الثمانينيات، والتي ارتبطت بشخصية دولور الذي تولى رئاسة المفوضية في أوائل 1985.
كانت الدول الأعضاء حريصة على إحياء اقتصاداتها المتصلبة، بينما أدرك دولور أن الطريقة الأكثر توافقية لإعادة إطلاق المشروع الأوروبي هي إزالة الحواجز الداخلية أمام التجارة.
كان التقدم سريعاً، فبعد 6 أشهر من توليه المنصب، كان لدى دولور خطة عمل مفصلة أعدها المفوض البريطاني آرثر كوكفيلد، إلى جانب موافقة العواصم الأوروبية، رغم اعتراضات بريطانية على توسيع التصويت بالأغلبية بهدف تسريع التشريع، وبعد عام، تحول المشروع إلى قانون، وحدد هدف “أوروبا 1992”.
كان دولور هو القوة المحركة، وفقاً للامي، الذي شغل منصب رئيس مكتبه آنذاك، وقال: “كانت هناك سلطة حقيقية لتوليد شيء كان — بمقاييس ذلك العصر — طموحاً للغاية”.
وأضاف لامي، أن المفوضية لم تستطع بعد ذلك مطلقاً الوصول إلى مستوى سلطة دولور وحزمه.
في الواقع، شملت السوق الواحدة السلع فقط، بينما كانت الخدمات، آنذاك والآن بدرجة أكبر، تمثل جزءاً أكبر من الاقتصاد.
وقد اعتُبرت عملية تحرير ودمج أسواق الاتصالات والطاقة مساساً بالسيادة الوطنية، فتم تأجيلها، وتأخر موعد تنفيذها كثيراً.
ما الذي حدث؟
يلقي لامي باللوم على زميله المفوض فريتس بولكشتاين، وهو هولندي صريح، بسبب محاولة سياسية مرتبكة لتحرير الخدمات تسببت بتراجع كبير.
فقد كانت مسودة بولكشتاين الأصلية تسمح للشركات بتقديم خدماتها في دولة عضو وفقاً لقواعد دولتهم الأصلية.
وآثار ذلك رد فعل عنيف في عدة دول، حيث ظهر تخوف واسع من أن “السباك البولندي” المهاجر سيقوض أجور العمال المحليين، وانتهى الأمر بإقرار نسخة مخففة بشدة عام 2006، ومنذ ذلك الحين لم يتحقق تقدم يُذكر.
وقال لامي: “لم تكن السياسة مهيأة جيداً، بالنظر لحساسية الموضوع في عدة دول أعضاء. لقد جاءت بنتائج عكسية وتركت ندبة يصعب علاجها”.
وقال ماريو مونتي، المفوض للسوق الداخلية من 1995 إلى 1999، إن زخم المشروع تبدد بسبب صعود “القومية الاقتصادية” في الدول الأعضاء وفقدان الثقة بالأسواق، خصوصاً بعد الأزمة المالية.
وأضاف مونتي، أن “الدعم الكاسح” الذي كان موجوداً في البداية من مجتمع الأعمال “تلاشى قليلاً” مع توسع الشركات عالمياً وتحول تركيزها نحو الاتحاد النقدي.
وكتب مونتي في عام 2010 تقريراً للمفوضية حول كيفية إعادة تشغيل السوق الواحدة، لكنه قال إن الاستجابة لتقريره والتقارير اللاحقة كانت “مثلثاً من النفاق”.
فالشركات والحكومات الوطنية تقول إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يستيقظ، ما يوحي بأن بروكسل هي المسئولة، بينما “نعلم أن معظم العراقيل موجودة لأن الحكومات الوطنية تريد بقائها”، وعندها تشعر بروكسل بأنها مستهدفة باللوم فتزداد “خجلاً” من تطبيق قواعد السوق.
في الوقت ذاته، فإن الشركات التي تدعم نظرياً المزيد من تكامل السوق نفسها “تضغط على حكوماتها لحمايتها من رياح السوق المفتوحة”.
وأشار مونتي إلى تحركات ألمانيا وإيطاليا هذا العام لعرقلة عمليات دمج في قطاع البنوك كأمثلة واضحة، وباعتبارها أكبر اقتصاد في الاتحاد وأقواه، تتحمل ألمانيا مسئولية خاصة عن الجمود.
قال ساندر توردوار، كبير اقتصاديي مركز الإصلاح الأوروبي، إن “ألمانيا لم تكن تملك ميزة تنافسية في قطاع الخدمات تاريخياً، لذلك قاومت الدمج خوفاً من المنافسة من دول أقوى في هذا المجال، وعلى المدى الطويل ستستفيد ألمانيا أيضاً من أسواق خدمات ورأس مال أعمق، لكن على المدى القصير يعني الدمج مزيداً من المنافسة والاضطراب”.
تتجلى أزمة الزخم في بيانات الاقتصاد: فالناتج المحلي الإجمالي للفرد في أوروبا لايزال عند 72% فقط من مستويات الولايات المتحدة، وفق صندوق النقد الدولي.
ليس هناك نقص في الأدلة على فوائد المزيد من التكامل.
فقد أظهر بحث لصندوق النقد الشهر الماضي أن المراكز الاقتصادية الكبرى في القارة تفشل في تحقيق إمكاناتها بسبب الحواجز التجارية.
وتقدر الدراسة، أن إزالة هذه العوائق، إلى جانب إصلاحات داخلية تلغي قواعد العمل والضرائب المقيدة للنمو، وتعزز المهارات، يمكن أن ترفع إنتاجية العامل في الاتحاد بأكثر من 20%.
قال ألفريد كامر، مدير إدارة أوروبا في الصندوق: “عندما تنظر إلى الشركات الأوروبية، تجد أنها تنمو في أسواقها الـ27، لكن طبيعة عملياتها العابرة للحدود تعرقلها هذه الحواجز الداخلية”.
وأضاف أن “الجزء الثاني هو ما تفتقده أوروبا: سوق رأسمال عميقة، فهي ببساطة غير موجودة”.
تُقدر تكاليف انتقال العمال بين دول الاتحاد بأنها أعلى بنحو 8 مرات، مقارنة بالانتقال بين الولايات الأمريكية، بسبب صعوبات مثل نقل المعاشات المهنية عبر الحدود ومتطلبات الترخيص المهني.
وقال ماتياس باور، مدير المركز الأوروبي لاقتصاديات السياسة الدولية، إن الاتحاد لايزال يفتقر للقواعد الموحدة الكفيلة بربط السوق الواحدة ربطاً محكماً.
وأضاف أنه “ربما يكون الاتحاد قد جعل الأمور أسوأ عبر إضافة طبقات جديدة من التنظيم الأوروبي فوق أنظمة وطنية معقدة ومتنامية تحكم كل شيء من حماية المستهلك إلى قانون العمل والضرائب”.
يعبر قادة الأعمال عن انزعاجهم من هذا الحمل التنظيمي الثقيل.
وقال يسبير برودين، الرئيس التنفيذي السابق لـ”إينجا” المشغلة لمعظم متاجر “إيكيا”: “دائماً تكون هناك نوايا حسنة في تطوير اللوائح، لكن في النهاية يصبح الأمر كتحوّل الحديقة إلى سياجٍ كثيف — يكبر ويكبر، حتى لا يبقى إلا خيار القص”.
أما الطفرة الاستثمارية في التكنولوجيا التي تحدث حالياً في الولايات المتحدة، فتفوق بكثير أي شيء يجري في أوروبا.
تشير تحليلات “ماكينزي” إلى أن استثمارات “السبعة الكبار” في التكنولوجيا في أميركا تزيد على نصف الإنفاق الإجمالي للاتحاد الأوروبي على البحث والتطوير.
هناك أسباب عديدة لذلك، لكن جزءاً منها يعود إلى نقص رأس المال المخاطر الكافي لتمكين شركات التكنولوجيا الجديدة من التوسع في أوروبا، واستمرار وجود الحواجز التي تجعل النمو عبر الأطلسي أسهل.
قالت فون دير لايين هذا الشهر: “لدينا إمكانات كبيرة جداً، لكن علينا فعلاً إطلاقها، هذا يتطلب شعوراً مشتركاً بالإلحاح وتضافر الجهود”.
لكن الحكومات الوطنية تقول إن الشعور بالخطر أو الحاجة الملحّة اللازمة لفرض تنازلات مازال غائباً، مع اكتفاء صُناع السياسات بتعديلات طفيفة على لوائح الاتحاد تحت شعار التبسيط.
قال سفير إحدى الدول الأعضاء: “يبدو أننا في كل اجتماع، وكل خطاب، وكل مقابلة، ننهي كلامنا بالقول: بالطبع، الأولوية الرئيسية هي تحسين القدرة التنافسية وإصلاح السوق الواحدة، ندعي أنها ليست فكرة لاحقة، لكنها في ظل كل القضايا الأخرى تصبح كذلك غالباً”.
أحد الحلول هو المضي بمجموعات أصغر من الدول الأعضاء، وهو نهج يفضله كارلوس كويربو، وزير الاقتصاد الإسباني، ويدفع كويربو باتجاه “تحالف الراغبين” للإسراع في التكامل، وقال إن ذلك سيشجع الدول على المضي قدماً “خوفاً من تفويت الفرصة”.
وأضاف أنه “يمكن لهذه المقاربات التصاعدية أن تكون محفّزاً. فمن الصعب الانتقال من 27 سوقاً مجزأ إلى سوق موحد دفعة واحدة، لكن يمكننا العمل خطوة بخطوة، ونأمل أن يساعد ذلك”.
أما فكرة أكثر جذرية قدمها الأكاديميون لويس جاريكانو وبنجت هولمستروم ونيكولا بيتي في ورقة جديدة، فتقضي بأن يركز الاتحاد جهوده على “المهمة الأساسية: التكامل الاقتصادي” باستخدام صلاحياته القانونية الفيدرالية الكاملة.
وهذا يتطلب فتح الأسواق عبر لوائح أوروبية لا تسمح بوجود أي اختلاف وطني، وإلغاء السلطات الوطنية التنظيمية في المجالات التي تعد “اختصاصاً حصرياً” للاتحاد، وإنشاء محاكم تجارية أوروبية لتطبيق الاعتراف المتبادل بالمعايير الوطنية.
وكتبوا أن “الاتحاد الأوروبي لا يحتاج إلى معاهدة جديدة أو صلاحيات جديدة، كل ما يحتاج إليه هو تركيز أحادي الهدف على غاية واحدة: الازدهار الاقتصادي”.







