منذ تولى رئيسة الوزراء اليابانية ساناى تاكايتشى منصبها فى أكتوبر، تصدر تحفيز النمو الاقتصادى ومعالجة ارتفاع تكاليف المعيشة أولوياتها السياسية.
تسعى «تاكايتشى» لتجنب مصير سلفها شيجيرو إيشيبا، الذى لم يستمر فى السلطة أكثر من عام بعد أن أطيح به وسط سخط شعبى واسع بسبب التضخم العنيد وقضايا أخرى.
بوصفها من المعجبين برئيس الوزراء الراحل شينزو آبى، تعهدت تاكايتشى بتبنى سياسة «آبينوميكس» التى صاغها معلمها، وهى حزمة من الإجراءات تشمل السياسة النقدية فائقة التيسير، والتحفيز المالى، والإصلاحات الهيكلية من أجل انتشال اليابان من دوامة الانكماش التى استمرت لعقود، والمتمثلة فى انخفاض الأسعار وضعف إنفاق المستهلكين.
انكمش الاقتصاد اليابانى، رابع أكبر اقتصاد فى العالم، خلال الربع الثالث، ما زاد من الضغوط على تاكايتشى، بحسب ما ذكرته شبكة «دويتشه فيله» الألمانية.
أعلنت إدارتها، الشهر الماضى، خطة إنفاق واسعة لدعم النمو ومساندة العائلات اليابانية، وتشمل الحزمة التى تبلغ قيمتها 135 مليار دولار (116 مليار يورو) منحاً نقدية للأسر ودعماً للطاقة.
هل ينجح التحفيز فى تسريع النمو فى اليابان؟
يرى فيرنر باشا، الخبير فى الشئون اليابانية، أستاذ الاقتصاد الفخرى فى معهد الدراسات شرق الآسيوية بجامعة دويسبورج ـ إيسن، أن هذه الحزمة لن تعزز التوسع الاقتصادى بشكل كبير.
ويقول «باشا» للشبكة الألمانية: «أولاً، يعنى الطلب الإضافى مزيداً من الضغوط التضخمية، ربما فى المدى القصير، لكن بالتأكيد فى المدى المتوسط. ثانياً، من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة قادرة فعلياً على زيادة الإنفاق الفعّال بالسرعة التى ترغب فيها. ففى الماضى لم تتمكن من ذلك».
ترى مارجريتا إستيفيز ـ آبى، الخبيرة فى الشأن اليابانى بجامعة سيراكيوز، أن معظم بنود ميزانية تاكايتشى لن تسهم كثيراً فى تسريع النمو.
وتقول إن تاكايتشى ستعِد بالاستثمار فى قائمة طويلة من القطاعات الرئيسية مثل الذكاء الاصطناعى، وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، والفضاء، والشحن، والطيران. وتضيف: «لكن هذا أشبه بقائمة رغبات أكثر منه خطة إستراتيجية جدية».
تؤكد إستيفيز ـ آبى، أن زيادة الإنفاق «علاج خاطئ» لمشكلات اليابان، التى ترى أنها نتاج «تحديات هيكلية» مثل شيخوخة السكان وتقلصهم، وضعف الاستثمار فى التعليم العام، وسوء تخصيص رأس المال فى قطاعات غير فعالة.
وتقول: «لا أعتقد أن ميزانية تاكايتشي، ولا أى شىء صرحت به حتى الآن، يعالج أياً من العوامل الجوهرية الأساسية».
المالية العامة لليابان فى وضع حرج
تثير خطط الإنفاق التوسعية لرئيسة الوزراء مخاوف من زيادة الضغط على المالية العامة للدولة، فاليابان تمتلك بالفعل أعلى مستوى دين بين الاقتصادات المتقدمة، بما يعادل نحو 250% من إجمالى ناتجها المحلى.
مع ذلك، فقد تجنبت البلاد حتى الآن أزمة اقتراض كبيرة، ويرجع ذلك أساساً إلى طبيعة ديونها.
فجميع السندات الحكومية مقومة بالين اليابانى، ويحتفظ اليابانيون بأكثر من 90% منها، بما فى ذلك أكثر من النصف الذى يحتفظ به البنك المركزى.
يقول فرانز فالديـنبرجر، مدير المعهد الألمانى للدراسات اليابانية، إن الحكومة اليابانية «مثقلة بالديون»، لكن الاقتصاد اليابانى ككل «ثرى».
وأشار إلى أن صافى الأصول الأجنبية كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى يُعد «من بين الأعلى فى العالم»، مضيفاً: «أصف هذا الوضع بأنه ’بلد غنى وحكومة فقيرة‘».
ارتفاع العوائد والتضخم العنيد
رغم ذلك، فقد أدت حالة الركود الاقتصادى وحزمة الإنفاق الأخيرة إلى زيادة تكلفة الديون، حيث ارتفعت الفوائد التى يطلبها المستثمرون للاحتفاظ بسندات الحكومة اليابانية خلال الأشهر الماضية.
وقفز عائد السندات الحكومية اليابانية لأجل 10 سنوات، العائد السنوى المتوقع للمستثمر والذى يتحرك عكس سعر السند، الأسبوع الماضى إلى 1.92%، وهو أعلى مستوى منذ نحو عقدين.
وتقول أليسيا جارسيا ـ هيريرو، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ فى بنك الاستثمار الفرنسى «ناتيكسيس»، إن سوق السندات اليابانية «تقف على حافة جرح ذاتى»، ووصفت موجة الإنفاق الحكومية بأنها «مشهد يشبه مقامراً يضاعف رهانه رغم خسارته».
فى الوقت ذاته، ظل التضخم أعلى من مستهدف البنك المركزى البالغ 2%.
تعتمد اليابان، الفقيرة بالموارد، بشكل كبير على الغذاء والطاقة والمواد الخام المستوردة لدعم اقتصادها، ويسهم ضعف الين فى زيادة الضغوط السعرية بجعل الواردات أكثر تكلفة.
وتقول إستيفيز ـ آبى، إن «التضخم لن ينخفض إلا عندما يقوى الين، وهذا يتطلب رفع أسعار الفائدة، وهو ما يؤثر سلباً على قدرة الحكومة على الاقتراض»، معتبرة أن خطة تاكايتشى «معضلة لا رابح فيها».
رفع بنك اليابان معدل الفائدة من 0.25% إلى 0.5% فى يناير الماضى، لكنه أبقاه ثابتاً منذ ذلك الحين.
وتتزايد التوقعات بأن البنك قد يقدم على رفع جديد خلال اجتماعه المقرر فى 18-19 ديسمبر.
أثار مزيج ارتفاع أسعار الفائدة وتحسن عوائد السندات اليابانية مخاوف فى الأسواق العالمية بشأن تأثير ذلك على ما يُعرف بالتداول بالفائدة.
فعلى مدى عقود، اعتمد المستثمرون العالميون على الاقتراض منخفض التكلفة بالين اليابانى لتمويل شراء أصول ذات عوائد أعلى فى الخارج، مثل الأسهم الأمريكية وسندات الخزانة.
وتبقى هذه الآلية مربحة طالما بقيت أسعار الفائدة منخفضة فى اليابان وبقى الين ضعيفاً.
لكن حال ارتفاع أسعار الفائدة وعوائد السندات فى اليابان، وتعافى الين، فقد تتفكك التداول بالفائدة، ما قد يثير اضطراباً فى الأسواق ويؤثر على تقييمات الأصول حول العالم، خصوصاً الأصول عالية المخاطر مثل العملات المشفرة وأسهم التكنولوجيا.
وقالت جارسيا ـ هيريرو: «هذا الوضع يغذى المخاوف من انفجار تجارة الفائدة بالين، ذلك المخطط العالمى البالغ 20 تريليون دولار والذى تعتمد فيه فقاعات التكنولوجيا فى وول ستريت والأسواق الناشئة على قروض رخيصة بالين».
رغم أنها ترى أن احتمال تحول هذا الاضطراب إلى أزمة مالية ضخمة مثل أزمة 2008 ـ 2009 ضعيف، لكنها تحذر من أنه قد يضرب الأسواق بقوة، «ممزقاً الأسهم بنسبة تتراوح بين 5 و12%، ورافعاً عوائد السندات بنحو 20 إلى 40 نقطة أساس».
ووصف «باشا» تجارة الفائدة بأنها «ظاهرة اقتصادية كلية غير طبيعية إلى حد ما»، مشيراً إلى أنها أسهمت فى «الاندفاع نحو البتكوين، وربما التقييمات المبالغ فيها لأسهم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى»، وغيرها من الظواهر.
من هذا المنظور، يقول «باشا»: «قد يكون من الإيجابى أن تظهر فى النهاية عوامل تدفع إلى تقليص تجارة الفائدة أو حتى عكس اتجاهها».
مع ذلك، يحذر من أن «الأسواق قد تصبح غير مستقرة وتخرج عن السيطرة إذا تغيرت التدفقات المالية بسرعة كبيرة»، مضيفاً أن «تفكيك تجارة الفائدة كظاهرة مالية بحتة سيكون أقل ضرراً من حدث واقعى كبير مثل تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة أو ظهور جائحة جديدة».








