تشهد صناعة الهيدروجين منخفض الكربون موجة تراجعات لافتة، مع تجميد قرابة 60 مشروعاً رئيسياً هذا العام، من بينها مشروعات تقودها مجموعتا النفط BP وExxonMobil، فى ظل ضغوط متزايدة ناجمة عن ارتفاع التكاليف، وعدم وضوح السياسات الحكومية، وضعف الطلب من المشترين الصناعيين.
وتعكس هذه التطورات فجوة متسعة بين الطموحات الكبيرة التى صاحبت صعود الهيدروجين النظيف فى مطلع العقد الحالى، والواقع الاقتصادى والسياسى الذى يفرض نفسه على القطاع.
وبحسب بيانات صادرة عن وكالة S&P Global، فإنَّ المشروعات التى جرى إلغاؤها أو تعليقها كانت ستنتج نحو 4.9 مليون طن سنوياً من الهيدروجين منخفض الكربون، أى ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف القدرة العالمية الحالية المركبة، ما يوضح حجم الرهان الذى تراجع عنه القطاع خلال فترة زمنية قصيرة.
وخلال الأسابيع الماضية، انسحبت BP من استثمارات مخطط لها فى مصانع لإنتاج الهيدروجين فى سلطنة عُمان ومنطقة تيسايد شمال شرقى إنجلترا، بعد تخليها فى وقت سابق من العام عن مشروع للهيدروجين الأخضر كان مقرراً إنشاؤه فى أستراليا.
وعكست هذه القرارات مراجعة إستراتيجية أوسع داخل الشركة لأولوياتها الاستثمارية، فى ظل ضغوط مالية والحاجة إلى التركيز على مشروعات ذات عوائد أوضح وأسرع.
4.9 مليون طن سنوياً من الوقود النظيف كانت ستنتجها المشروعات
من جهتها، أوقفت ExxonMobil الشهر الماضى مشروعاً ضخماً للهيدروجين فى ولاية تكساس الأمريكية، كان مرشحاً ليكون من الأكبر عالمياً، رغم رهان الشركة على الهيدروجين واحتجاز الكربون كجزء من إستراتيجيتها لخفض الانبعاثات دون التخلى عن الوقود الأحفوري.قائمة متزايدة من الإلغاءات والتأجيلات
ولم تقتصر التراجعات على BP وExxonMobil، إذ ألغت أو أخّرت شركات كبرى أخرى، مثل Equinor النرويجية، وArcelorMittal عملاق صناعة الصلب، وVattenfall السويدية، عدداً من مشروعات الهيدروجين خلال الثمانية عشر شهراً الماضية.
كما ألغت Shell مشروعاً للهيدروجين كان فى مراحله المبكرة بالنرويج، فى خطوة تعكس حذراً متزايداً تجاه الاستثمار فى القطاع.
وتشير هذه القرارات إلى أن التحديات التى تواجه صناعة الهيدروجين منخفض الكربون لا تقتصر على سوق بعينه، بل تمتد عبر أوروبا وأمريكا الشمالية وأسواق أخرى كانت تُعد رائدة فى تبنى هذه التكنولوجيا.
تسلّط هذه التطورات الضوء على الصعوبات التى تعرقل توسيع نطاق تكنولوجيا كان يُنظر إليها بوصفها أحد الحلول الرئيسية لخفض الانبعاثات عالميًا.
فالهيدروجين منخفض الكربون، سواء الأخضر المنتج من الطاقة المتجددة، أو الأزرق المنتج من الغاز الطبيعى مع احتجاز الكربون، لا يزال يواجه صعوبة فى تأمين عقود شراء طويلة الأجل، فى ظل تكلفته المرتفعة مقارنة بالهيدروجين «الرمادى» المنتج من الوقود الأحفورى دون احتجاز الانبعاثات.
ومع ارتفاع أسعار الفائدة وضغوط التضخم، بات العديد من المشترين الصناعيين أقل استعداداً لتحمل «العلاوة الخضراء» مقابل خفض الانبعاثات.
وقال موراى دوجلاس، رئيس أبحاث الهيدروجين فى شركة Wood Mackenzie الاستشارية، إن العامين الماضيين كانا من أشد الفترات صعوبة على مطورى مشروعات الهيدروجين النظيف.
وأضاف أن الاستعداد لدفع ما يُعرف بـ«العلاوة الخضراء» مقابل التقنيات منخفضة الكربون تراجع بشكل حاد عبر مختلف القطاعات.
مشروعات كثيرة.. لكن التنفيذ محدود
ورصدت Wood Mackenzie أكثر من 300 مشروع هيدروجين منخفض الكربون جرى إلغاؤه أو تعثره أو تجميده منذ عام 2020.
ومع ذلك، أوضح دوجلاس أن عدداً كبيراً من هذه المشروعات كان ذا طبيعة مضاربية أو يفتقر إلى الأسس الاقتصادية والتقنية القوية، ما جعله أكثر عرضة للإلغاء عند أول اختبار حقيقى للسوق.
فى المقابل، تشير بيانات وكالة الطاقة الدولية إلى أنه جرى الإعلان عن أكثر من 2600 مشروع للهيدروجين حول العالم بحلول نهاية عام 2024.
وتتركز نسبة كبيرة من هذه المشروعات فى دول تتمتع بموارد وفيرة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مثل أستراليا وموريتانيا ومصر، حيث يُفترض أن تكون كلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر أقل نسبياً.
صعوبات تأمين عقود شراء طويلة الأجل وارتفاع تكلفة الإنتاج يعرقلان التوسع الصناعي
وتقدّر الوكالة أن إنتاج الهيدروجين النظيف يجب أن يرتفع عشرة أضعاف بحلول 2035 لتحقيق أهداف الحياد الكربوني، لكنها تتوقع أن ربع المشروعات المخطط لها فقط حتى عام 2030 سيتم تنفيذها فعلياً.
وتأثرت الصناعة أيضاً بتقلبات الدعم السياسى، خاصة فى الولايات المتحدة وأوروبا؛ حيث أدت سياسات معادية للطاقة المتجددة فى واشنطن إلى تقليص إعانات وُعد بها سابقاً، فيما تأخرت الدول الأوروبية فى تنفيذ تشريعات ملزمة قصيرة الأجل، رغم تخصيص بروكسل أكثر من 20 مليار يورو لدعم الهيدروجين المتجدد.
ويعكس هذا التقدير فجوة واضحة بين الطموحات المعلنة على مستوى الحكومات والشركات، وبين القدرة الفعلية على تحويل هذه الطموحات إلى مشروعات قائمة تعمل على أرض الواقع.
التكلفة والبنية التحتية تعرقلان التقدم
ولا تزال التكلفة تمثل عقبة رئيسية أمام انتشار الهيدروجين منخفض الكربون على نطاق واسع، فالهيدروجين الأخضر، حتى عند إنتاجه باستخدام مصادر طاقة متجددة رخيصة نسبياً، قد يكلف نحو ضعف تكلفة الهيدروجين المنتج من الوقود الأحفورى دون احتجاز الانبعاثات.
ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى كلفة تطوير البنية التحتية الجديدة، بما فى ذلك وحدات التحليل الكهربائى وشبكات النقل والتخزين.
وقد دفعت هذه العوامل شركات مثل ArcelorMittal إلى إلغاء مشروعات للهيدروجين الأخضر فى ألمانيا، رغم حصولها على دعم حكومى سخى، بعدما خلصت إلى أن الهيدروجين لا يزال غير قابل للاستخدام اقتصادياً كوقود رئيسى فى صناعة الصلب.
كما انسحبت Vattenfall من برنامج دعم أوروبى لمشروع محللات كهربائية فى هولندا، بسبب تأخر تنفيذ شبكة أنابيب على مستوى القارة.
رغم موجة الإلغاءات والتأجيلات، ترى جهات مثل مجلس الهيدروجين، المدعوم من شركات صناعية ونفطية كبرى، أن ما يحدث يمثل مرحلة طبيعية من نضج السوق.
ويشير المجلس إلى أن صناعات الطاقة المتجددة الأخرى، مثل الرياح والطاقة الشمسية والبطاريات، شهدت مراحل مشابهة فى بداياتها، حيث لم يصل إلى التنفيذ سوى جزء محدود من المشروعات المعلنة.
وقالت الرئيسة التنفيذية للمجلس، إيفانا جيميلكوفا، إن واحداً فقط من كل عشرة مشروعات فى مراحلها المبكرة يصل عادة إلى مرحلة التشغيل الفعلى، معتبرة أن هذه النسبة لا تختلف كثيراً عما شهده العالم فى مراحل التوسع الأولى لتقنيات الطاقة النظيفة الأخرى.
ما المقصود بألوان طيف الهيدروجين؟
الهيدروجين الأخضر: يُنتَج باستخدام كهرباء نظيفة من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الرياح والشمس، من خلال عملية التحليل الكهربائى للمياه (H2O)، حيث يتم فصل ذرات الهيدروجين عن الأكسجين.
ويُعد هذا النوع الأكثر صداقة للبيئة، لكنه فى الوقت الراهن الأعلى تكلفة، نتيجة كلفة تطوير البنية التحتية والنقل.
الهيدروجين الأزرق: يُنتَج باستخدام الغاز الطبيعي، مع احتجاز الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عملية الإنتاج وتخزينها أو إعادة استخدامها.
ولا تزال كميات الإنتاج من هذا النوع محدودة، بسبب قلة مشروعات احتجاز الكربون على نطاق واسع.
الهيدروجين الرمادى: يُعد الشكل الأكثر شيوعاً لإنتاج الهيدروجين حاليًا، إذ يُنتج من الغاز الطبيعى عبر عملية إصلاح الميثان بالبخار، دون احتجاز الانبعاثات الناتجة، ما يجعله عالى البصمة الكربونية.
الهيدروجين البني: يُعتبر الأرخص من حيث التكلفة، لكنه الأكثر ضرراً بالبيئة، إذ يُنتج باستخدام الفحم الحرارى فى عملية الإنتاج، ما يؤدى إلى انبعاثات كربونية مرتفعة.








