في العامين الماضيين أصدر عدد من رجال الأعمال البارزين مذكراتهم التي توثق تجاربهم في عالم الأعمال وتقدم كنزًا من الرؤي حول ريادة الأعمال في بيئة اقتصادية وسياسية مثقلة.. خاصة أنها ترصد لفترة هامة في تاريخ الاقتصاد المصري منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتي بدايات الألفية الجديدة.
ومن أهم هذه المذكرات التي صدرت وبدأها ورثة الراحل شهبندر التجار محمود العربي ثم رجل الأعمال رؤوف غبور ونادر رياض ومحمد منصور وأخيرًا صلاح دياب.
وهذه المذكرات ترصد وتوثق لمرحلة هامة في تاريخ إعادة تشكيل الاقتصاد المصري وإعادة تحويل مساره من اقتصاد اشتراكي إلي شبه رأسمالي.. وفي فترات سياسية متباينة وصعبة.
وهذه الفترة التي ترصدها هذه المذكرات في منتصف السبعينات وما تبعها من سياسات الانفتاح الاقتصادى عقب حرب أكتوبر، وبدايات إنشاء المدن الصناعية في الثمانينات، ثم الظهور القوي لمجتمع رجال الأعمال في منتصف التسعينات وما بعدها، ومشاركة رجال الأعمال في العمل السياسي كنواب ووزراء، والملاحظ في هذه المذكرات أن أصحابها كان لديهم سمات مشتركة في الرغبة في العمل الحر منذ طفولتهم.. وكثيرًا منهم ينتمي لعائلات اقتصادية معروفة ولكنهم حرصوا علي أن تكون لهم تجارب خاصة بهم في فترات الصبا والشباب.. فهذا رؤوف غبور يبيع البسبوسة لزملائه في المدرسة، وهذا صلاح دياب يتاجر في اللب والعسل في بدايته بعيدًا عن بيزنس العائلة.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: المعونة الملعونة
إلا أن الراحل محمود العربي هو العصامي الوحيد من بين هؤلاء الذي لم يكن سليل عائلة اقتصادية، وبدأ حياته المهنية من الصفر.
وأنا عن نفسي كتبت عن مذكرات اثنين منهم، رؤوف غبور (بسبوسة رؤوف غبور)، وعن نادر رياض (الصناعة قبل الخبز أحيانا) وبتحليل هذه المذكرات تجد أن رجل الأعمال صلاح دياب والذي ينتمي لعائلة لها تاريخ في البيزنس والصحافة تميزت مذكراته بالجرأة في الطرح وانتقاده للسياسات العامة في بعض العصور وتسليطه الضوء علي تحولات الاقتصاد المصري من عصر التأميم إلي العصر الحالي وتجربته المثيرة في صناعة الإعلام.
أما رجل الأعمال والوزير السابق محمد لطفي منصور الذي ينتمي لواحدة من أغني عائلات مصر فهو يتحدث في مذكراته عن الإدارة العائلية للبيزنس.. وتتميز مذكراته بحديثه عن العمق الإداري في تجربته وحرصه علي التعليم الاستراتيجي وعلاقاته الدولية التي فتحت له أبواب الصداقة مع رؤساء دول في أمريكا وغيرها وعلاقاته بالدولة المصرية وتجربته الوزارية كوزير للنقل ومرونة التعامل مع السلطة دون صدام.
أما رجل الأعمال الراحل رؤوف غبور وهو أيضًا ينتمي لعائلة لها تاريخ في عالم البيزنس وتحديدًا في التجارة، فإن مذكراته بالفعل بها من الدروس والرؤي المفيدة فالرجل اعترف بأخطائه بصراحة في كثير من مراحل حياته في عالم البينزس.. فهو صاحب تجربة ثرية علي المستوي المهني والإنساني وتحديدًا عندما تحدث عن صراعه مع المرض وكيف واجهه ووصيته لأبنائه ولوطنه.. بالفعل مذكرات جديرة بالقراءة.
فيما ركز رجل الأعمال نادر رياض أحد أبرز صناع الجيل الأول بعد الانفتاح الاقتصادي.. علي تجربته الشخصية وكيف أنه استغل دراسته وتواجده في ألمانيا ليخلق كيانا صناعيا مصريا له اسم وشهرة عالمية واهتمامه وتشجيعه للصناعة المحلية التي يري أنها هي الأمل والضرورة لبناء اقتصاد قوي.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: حسن الخطيب وزير الدولار
وتأتي مذكرات شهبندر التجار الراحل محمود العربي لتعكس فلسفة رجل عصامي بدأ من الصفر تسلحًا بالإيمان والعزيمة.. وتتميز مذكراته بالبعد الإنساني والديني والتواضع والبساطة في التعامل وحرصه علي العلاقة بين صاحب العمل والعامل وانهما شريكان لهما مصلحة واحدة في استمرار الكيان.. وترصد مذكراته تجربته في بناء مجموعة العربي وكيف أعجب به اليابانيون رغم أنه غير حاصل علي أي مؤهلات علمية وكرموه بمنحة أكبر وسام من إمبراطور اليابان.
ولعل أهم الدروس المستفادة من تحليل هذه المذكرات أن الصبر والوقت كانا عنصرين حاسمين في بناء أي مشروع كبير وأن الإدارة الرشيدة أهم من رأس المال خاصة في المراحل الأولي من البيزنس وأن الهوية الشخصية والادأخلاقية ( كما في حالة محمود العربي) تلعب دورًا في النجاح طويل الأمد وأن الذكاء السياسي مهم بقدر الذكاء التجاري في بيئة عمل مثل مصر.
وفي تقديري أن هؤلاء رجال الأعمال كانوا امتداد للرأسمالية الوطنية التي سادت مصر قبل ثورة يوليو 52 سواء من خلال تاريخ عائلاتهم أو سجلات العمل التي مارسوها مثل الزراعة لعائلة دياب والتجارة والتوزيع والسيارات لعائلة منصور.. والتجارة وصناعة السيارات لعائلة غبور.. والصناعة لنادر رياض والعربي.. هذا علي عكس رجال الأعمال الجدد الذين يفضلون الربح السريع الممثل في العقارات والخدمات المالية والتكنولوجيا وأعتقد أن مذكرات رجال الأعمال الكبار تمثل وثائق حية تعكس تحول الاقتصاد المصري في العقود الماضية وكيف أن هؤلاء استطاعوا أن يصنعوا النجاح في بيئة ملية بالتحديات.
ولا شك أن قراءة هذه المذكرات لا تتيح فقط فرصة لفهم الماضي بل تقدم إلهاما حقيقيًا لمن يسعي لبناء مستقبل اقتصادي أكثر نضجًا واستدامة.








