في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تقف البشرية على أعتاب أزمة مالية صامتة لكنها متضخمة: أزمة الديون العالمية، فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي ومعهد التمويل الدولي، بلغ الدين العالمي — العام والخاص — أكثر من 315 تريليون دولار في عام 2024، ما يمثل نحو 336% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وبينما تختلف التفاصيل من دولة إلى أخرى، تبقى القصة واحدة: الحكومات، والشركات، والأسر، جميعها تنفق أكثر مما تجني، في دورة لا يبدو أن لها نهاية قريبة.
يشير الدين العام إلى ما تقترضه الحكومات لتغطية نفقاتها. وتتصدر دول مثل اليابان (بدين يفوق 250% من ناتجها المحلي) والولايات المتحدة (نحو 120%) قائمة الدول الأكثر مديونية. وحتى الدول النامية، التي كانت تتمتع بديون معتدلة، شهدت ارتفاعًا حادًا بسبب الإنفاق الاجتماعي والضغوط السياسية والاقتصادية.
أما الدين الخاص، فيشمل ديون الشركات والأسر، ويمثل أكثر من 60% من إجمالي الدين العالمي. فقد دفع الاقتراض الرخيص، نتيجة سياسات الفائدة المنخفضة بعد الأزمة المالية العالمية، الشركات إلى التوسع عبر التمويل بالدين، كما شجّع الأسر على الاقتراض لشراء المنازل والتعليم والاستهلاك.
شهد العالم تاريخيًا أربع موجات رئيسية من تراكم الديون منذ السبعينيات:
- الموجة الأولى بدأت في السبعينيات والثمانينيات، حين حصلت العديد من دول أمريكا اللاتينية على قروض كبيرة من البنوك الدولية والمؤسسات المالية بسبب توفر التمويل بأسعار فائدة منخفضة. لكنها ارتفعت في أوائل الثمانينيات، ومع انخفاض أسعار السلع الأساسية التي تعتمد عليها تلك الدول في التصدير، إضافة إلى الإنفاق الحكومي المفرط، وعجز الموازنة، والتضخم المرتفع، أعلنت تلك الدول عجزها عن سداد ديونها، التي بلغت نحو 327 مليار دولار. ودخلت في ركود عميق عُرف بـ”العقد الضائع”، لتبدأ مرحلة إعادة جدولة الديون وتنفيذ إصلاحات اقتصادية واسعة.
- الموجة الثانية اندلعت عام 1997 بقيادة تايلاند، نتيجة الأزمة المالية التي ضربت دول شرق آسيا. جاءت هذه الأزمة نتيجة الإفراط في الاقتراض وتكوُّن فقاعة عقارية بسبب التوسع الكبير في الاستثمار العقاري، ورافقها ضعف الرقابة المالية، وانعدام الشفافية، وانتشار المضاربات على العملات. انهارت شركات وبنوك كثيرة، وبلغت ديون تلك الدول نحو 400 مليار دولار، معظمها على القطاع الخاص. وانتهت الأزمة بتدخل صندوق النقد الدولي، الذي قدم حزم إنقاذ مالية مقابل تنفيذ برامج إصلاح شاملة.
- الموجة الثالثة جاءت بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حيث ارتفعت مستويات الديون إلى مستويات غير مسبوقة، سواء السيادية أو الخاصة. قُدِّر الدين العالمي حينها بنحو 250 تريليون دولار، أي ما يعادل 230% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنةً بـ140 تريليون دولار في عام 2007. وقد شهدت الأسواق الناشئة خلال الفترة 2010–2018 أسرع وتيرة تراكم للديون خلال نصف قرن، حيث ارتفع إجمالي الدين من 90% إلى 170% من الناتج المحلي الإجمالي، وغالبيتها كانت صادرة عن مؤسسات مالية غير مصرفية، أو من مصادر تمويل خارجية مقوّمة بالدولار.
- الموجة الرابعة بدأت بعد تفشي جائحة كورونا في عام 2020، وتُعد الأخطر من حيث الحجم، والسرعة، والتعقيد. وصفها البنك الدولي بأنها أسرع وأوسع موجة تراكم للديون في الدول النامية والأسواق الناشئة خلال نصف قرن، حيث بدأ الإنفاق يتوسع بشكل غير مسبوق لمواجهة آثار الجائحة، في ظل تراجع الإيرادات وتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. وقد تجاوز حجم الدين العالمي في هذه المرحلة 330 تريليون دولار، ما يعادل 350% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو مستوى قياسي. وتشير التقديرات إلى أن الدول النامية وحدها تتحمل ما يقرب من 100 تريليون دولار من هذا الدين، مما يزيد من هشاشتها المالية ويجعلها أكثر عرضة لتقلبات الأسواق وارتفاع أسعار الفائدة.
يكشف تتبّع هذه الموجات الأربع عن نمط متكرر: تراكم مفرط للديون في سياقات تتسم بوفرة السيولة، وضعف الرقابة، والتوسع غير المنضبط في الاقتراض، يليه انهيار مفاجئ يستدعي تدخل المؤسسات المالية الدولية، غالبًا مشروطًا بإصلاحات هيكلية قاسية.
تبرز من هذه الموجات ملاحظتان محوريتان:
- أن الجزء الأكبر من الدين في الموجات الثلاث الأخيرة تركز في القطاع الخاص لا الحكومي، ما يعكس تصاعد النزعة المالية وتزايد ترابط الأسواق العالمية.
- أن الدول النامية كانت الأكثر هشاشة والأقل قدرة على امتصاص الصدمات، بسبب اعتمادها الكبير على التمويل الخارجي بالدولار، وضعف بنيتها المالية، ومحدودية أدواتها النقدية والمالية.
تتسم الموجة الرابعة بخطورة خاصة، كونها لم تأتِ نتيجة أزمة واحدة، بل في ظل سلسلة أزمات متلاحقة ومتداخلة عمّقت الاختلالات وزادت من الضغوط على الدول النامية. فقد أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى أزمة طاقة وغذاء عالمية، وارتفعت الأسعار بشدة، وتصاعدت التوترات الجيوسياسية، واختلت سلاسل الإمداد، وارتفعت معدلات التضخم العالمي، مما دفع البنوك المركزية الكبرى إلى تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة، فزادت كلفة خدمة الدين، خصوصًا على الدول المثقلة بالاقتراض الخارجي. ويظل تغير المناخ عاملاً مضاعفًا للمخاطر، إذ يفرض أعباء مالية إضافية على الدول الفقيرة التي تعاني من شح الموارد.
وإلى جانب هذه الأزمات الظرفية، هناك عوامل هيكلية فاقمت الأزمة، أبرزها:
- الاعتماد المفرط على النمو المدفوع بالديون بدلًا من الاستثمار في الإنتاجية والابتكار.
- سياسات نقدية ميسّرة استمرت سنوات طويلة، شجّعت على الاقتراض الرخيص بلا ضوابط.
- غياب العدالة في النظام الضريبي العالمي، ما أدى إلى تسرب الإيرادات من الدول النامية إلى الملاذات الضريبية.
- تفكك الانضباط المالي في العديد من الديمقراطيات نتيجة الضغوط الشعبوية على زيادة الإنفاق.
كل ذلك يفرض مراجعة عميقة لمنظومة الديون العالمية، وآليات التمويل الدولي، وأولويات السياسات الاقتصادية، خاصةً في عصر تتكاثر فيه الأزمات وتتشابك فيه التحديات بطريقة غير مسبوقة.
تاريخ الديون مليء بالدورات التي تنتهي إما بانفجارات مالية أو بإصلاحات جذرية، والسؤال الآن: هل يتعلّم العالم من التجارب الماضية، أم يسير نحو انفجار خامس، المؤشرات مختلطة، لكن المؤكد أن أزمة الدين لم تعد قضية اقتصادية بحتة، بل أصبحت مسألة تتعلق بالعدالة الدولية والاستقرار العالمي.








