تسعى الشركات القيادية المدرجة بالمؤشر الرئيسى للبورصة المصرية لإعادة توزيع السيولة المتوافرة لديها بين أدوات الدين والاستثمارات التشغيلية، فى انعكاس مباشر لبدء دورة خفض أسعار الفائدة.
وكشف مسح أجرته «البورصة» على القوائم المالية لتلك الشركات، أن إجمالى الاستثمارات فى أدوات الدين ارتفع بنسبة 23%، خلال النصف الأول من العام الجارى، مقارنة بالفترة نفسها من 2024، مدفوعاً بتوسع الشركات المالية والخدمية، فى حين سجلت القطاعات الصناعية والعقارية تراجعاً حاداً فى حيازاتها مع تركيز واضح على الإنفاق التشغيلى وتمويل التوسعات الإنتاجية.
ويرى محللون أن هذا التباين يعكس اختلاف أولويات القطاعات؛ إذ يتجه القطاع المالى إلى اقتناص العائد المرتفع مؤقتاً قبل استمرار خفض الفائدة، بينما تركز الشركات الصناعية والعقارية على تعظيم العائد التشغيلى وسط تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلى، واستقرار سعر الصرف.
«جنينة»: دورة توسعية حقيقية تظهر بعد عقد من الجمود
قال هانى جنينة، رئيس قسم البحوث بشركة الأهلى فاروس القابضة، إنَّ توسع الشركات المالية فى أدوات الدين خلال الفترة الأخيرة يعد سلوكاً طبيعياً ومتوقعاً؛ نظراً إلى طبيعة نشاطها القائم على التعامل المستمر مع الأدوات المالية وسعيها لاقتناص عوائد مرتفعة قبل استمرار دورة الخفض.
وأضاف أن عدداً من الكيانات يمتلك فوائض نقدية تسعى لتوظيفها فى أوراق مالية طويلة الأجل بعائد ثابت، لتأمين مستويات العائد الحالية قبل التراجع المتوقع.
أشار إلى أن تزايد التوقعات بخفض إضافى للفائدة خلال الأسابيع الماضية بعد التطورات الجيوسياسية الأخيرة عزز هذا الاتجاه.
أوضح أن سلوك الشركات الصناعية يختلف تماماً؛ إذ توجه السيولة المتاحة إلى التشغيل أو الإنفاق التوسعى بدلاً من أدوات الدين، فى ظل عودة موجة توسع إنتاجى حقيقية يشهدها السوق لأول مرة منذ قرابة عشر سنوات، ما يعكس استعادة الثقة فى بيئة الاستثمار المحلى.
أفاد «جنينة» بأن بعض الشركات، خاصة الحكومية، كانت تحتفظ بالسيولة مؤقتاً فى أدوات الخزانة أو الصناديق النقدية إلى حين تحديد خطط استخدامها أو توزيع الأرباح، موضحاً أن اختيار القناة الاستثمارية يرتبط بتوقيت الحاجة إلى السيولة وأهدافها التشغيلية.
أظهر المسح أن القطاعين الصناعى والعقارى سجلا انخفاضاً فى استثمارات أدوات الدين تجاوز 15%، خلال النصف الأول من العام، مقابل زيادة بنسبة 35% فى القطاع المالى، الذى تصدَّر نمو الحيازات.
وقال مصطفى شفيع، رئيس قسم البحوث بشركة عربية أون لاين لتداول الأوراق المالية، إن ارتفاع استثمارات بعض الشركات فى أدوات الدين رغم بدء دورة خفض الفائدة لا يُعد بالضرورة سلوكاً دفاعياً؛ بل يرتبط بطبيعة نشاط الشركة ومصادر إيراداتها.
وأوضح أن الشركات الصناعية والعقارية عادة ما توجّه السيولة إلى النشاط التشغيلى عبر شراء المواد الخام أو تطوير خطوط الإنتاج، فى حين تميل الشركات المالية والخدمية إلى توظيف السيولة فى أدوات مالية قصيرة ومتوسطة الأجل بحكم اعتمادها على تدوير الأموال يومياً لتحقيق عوائد مستقرة.
وأضاف أن قرار الاحتفاظ بالسيولة أو ضخها فى التشغيل يتوقف على دورة الاقتصاد ومستوى المخاطر، وأثناء فترات النمو واستقرار التضخم تميل الشركات إلى الإنفاق الرأسمالى، بينما تتجه فى أوقات الضبابية إلى أدوات الدين كملاذ آمن.
وأكد «شفيع»، أن أدوات الدين ما زالت استثماراً آمناً بعوائد تصل تتراوح بين 25 و26% قبل الضريبة (نحو 20 ـ 21% بعد الخصم)، وهى مستويات يصعب تحقيقها فى أدوات مالية أخرى باستثناء الأسهم التى تحمل مخاطر أعلى.
وأشار إلى أن تحسن مؤشرات الاقتصاد شجَّع المؤسسات الكبرى على العودة إلى الاستثمار التشغيلى، خاصة فى القطاعات الصناعية التى بدأت بالفعل تنفيذ توسعات إنتاجية جديدة.
«عبدالنبى»: فقدان الجاذبية التدريجى يحفز العودة للنشاط التشغيلى
قال أحمد عبدالنبى، رئيس قسم البحوث بشركة مباشر لتداول الأوراق المالية، إن الشركات تواصل استثمار فوائضها النقدية فى أذون الخزانة والسندات والودائع البنكية لتحقيق دخل مستدام، لكن تراجع العائد بعد خفض الفائدة بنحو 6.25% منذ بداية العام قلّص جاذبية هذه الأدوات.
أوضح أن بعض الشركات قد تعيد هيكلة استثماراتها مع توقعات خفض إضافى بنحو 1% قبل نهاية العام، لافتاً إلى أن الاتجاه إلى أدوات الدين سيظل خياراً مؤقتاً للشركات التى لا تمتلك فرصاً تشغيلية تحقق عوائد أعلى.
أضاف أن فقدان الجاذبية التدريجى لأدوات الدخل الثابت سيحفّز الشركات على تنفيذ مشروعات توسعية مؤجلة فى ظل انخفاض تكلفة التمويل، ما يعزز العائد التشغيلى على المدى المتوسط.
ووفقاً لبيانات المسح، سجلت شركة بلتون أعلى معدل نمو فى استثماراتها بأدوات الدين بنسبة 93.3% لتصل إلى 230 مليون جنيه بالنصف الأول من 2025، مقابل 119 مليون جنيه فى الفترة المقارنة.
فى المقابل، خفّضت أوراسكوم للتنمية استثماراتها فى أدوات الدين بنسبة 66.1% إلى 199 مليون جنيه مقابل 587 مليون جنيه، لتسجل أكبر نسبة تخارج بين الشركات المدرجة.
«إمام»: خفض الفائدة يعيد تشكيل أولويات الإنفاق
قال عبدالحميد إمام، رئيس قسم البحوث بشركة بايونيرز لتداول الأوراق المالية والسندات، إن سياسة التيسير النقدى التى ينفذها البنك المركزى أسهمت فى تنشيط الاقتصاد وتحفيز الشركات على توجيه السيولة إلى الأسهم والمشروعات التشغيلية بدلاً من أدوات الدخل الثابت.
تابع أن تراجع الفائدة منذ بداية 2025، مع التوقعات باستمرار الخفض بنحو 6% إضافية فى العام المقبل، دفع الشركات إلى إعادة تقييم أولوياتها الاستثمارية، ما يشير إلى تحول تدريجى فى هيكل الاستثمارات لصالح التشغيل والتوسع.
وأكد «إمام»، أن استثمار الشركات سابقاً فى أدوات الدين كان بغرض إدارة السيولة وتقليل المخاطر، فى ظل العوائد المرتفعة التى كانت تمثل فرصة آمنة مؤقتة، إلا أن انخفاض الفائدة جعل التوسع التشغيلى أكثر جدوى وربحية.
وأشار إلى أن شركات التمويل غير المصرفى تعد من أبرز المستفيدين من خفض الفائدة، بفضل زيادة الطلب على خدماتها وتحسن معدلات السداد وتراجع التعثر، ما يفتح أمامها فرص توسع جديدة.
«فهمى»: تراجع الإنتاج والمبيعات يدفع بعض الشركات إلى أدوات الدين
قال هيثم فهمى، خبير أسواق المال، إنَّ من الضرورى التفريق بين البنوك وشركات الخدمات المالية غير المصرفية من جهة، وباقى الشركات من جهة أخرى عند تحليل استثمارات أدوات الدين؛ إذ تشكل الأولى جزءاً أساسياً من نموذج أعمالها، بينما تعد لدى القطاعات الأخرى نشاطاً غير رئيسى.
وأوضح أن قرارات زيادة أو خفض الاستثمارات فى أدوات الدين تعتمد على حجم السيولة المتاحة والعائد من التشغيل، مشيراً إلى أن الشركات عادة ما توجه فوائضها إلى أدوات الدين بعد تغطية المصروفات التشغيلية والإنفاق الرأسمالى.
ذكر أن انخفاض الإنتاج أو المبيعات يدفع بعض الشركات إلى الاستثمار فى أدوات الدين للحفاظ على هوامش الأرباح، فى حين تمثل أرباحها التشغيلية الأساس فى تقييم أدائها، بينما تُعد أرباح أدوات الدين استثنائية وغير متكررة.
وأكد «فهمى» أن أدوات الدين ما زالت جاذبة نسبياً، لكنها تظل قناة مؤقتة لتوظيف السيولة الفائضة فى ظل تراجع العوائد التشغيلية، موضحاً أن ارتفاع الإنفاق الرأسمالى لا يرتبط مباشرة بانخفاض الفائدة، بل بزيادة الطلب على المنتجات والتوسع فى الطاقة الإنتاجية الناتج عنها.








