على الرغم من إعلان الحكومة مؤخرًا عن تحقيق معدلات نمو إيجابية خلال العام الحالي، إلا أن جزءًا كبيرًا من المواطنين لا يشعرون بتحسن ملموس في مستوى المعيشة، وهذا يعود للفارق الجوهري بين معدلات النمو ومعدلات التنمية، وهو فارق تستند إليه العديد من النظريات الاقتصادية التي تؤكد أن النمو وحده لا يكفي لبناء اقتصاد قومي يشعر المواطن بثماره.
ومن الملاحظ أن روشتة الصندوق ذاتها تركز على تحقيق معدلات نمو في البرنامج الإصلاحي للاقتصاد المصري.. فلم نسمع أن الصندوق طالب بإصلاح نظم التعليم أو الخدمات الصحية، بل يركز على إلغاء الدعم بكل أنواعه، وحتى المقدم لدعم إسكان محدودي الدخل ودعم الخبز. ومن المعروف أن النمو الاقتصادي يشير إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي أو ارتفاع قيمة السلع والخدمات المنتجة داخل الدولة، ويقاس بأرقام ونسب مئوية.. وقد يتحقق النمو عبر توسع استثماري أو زيادة الإنتاج دون تأثير مباشر على جودة الحياة بالنسبة للمواطنين. (والنمو في مصر تحقق من صفقات بيع الأصول واستثمار الخليجيين في الساحل الشمالي).
أما التنمية فلها مفهوم أوسع وأشمل، وتستهدف تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتطوير البنية التحتية بجميع أشكالها من مرافق وطرق، وليس طرقًا فقط، وخلق فرص عمل ذات دخل جيد، وتقليل الفقر من خلال عدالة توزيع الدخل أو الثروة ورفع الإنتاجية الحقيقية للفرد.. من هنا نجد أن التركيز على تحقيق تنمية حقيقية سينعكس بشكل مباشر على مستوى معيشة المواطن الذي سيجد تعليمًا وخدمة صحية جيدة وفرصة عمل تناسب احتياجاته.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: «الرقيب المحترف»
وهناك نظريات اقتصادية تفرق بين النمو والتنمية وترجح العمل على تحقيق التنمية عن معدلات النمو، فهذا عالم الاقتصاد الأمريكي ألبرت هيرشمان في كتابه “استراتيجية التنمية الاقتصادية”، وهو صاحب نظرية التنمية غير المتوازنة، والتي ترى أن النمو قد يتحقق في قطاعات معينة دون أن ينعكس على باقي القطاعات، مما يؤدي إلى عدم شعور المواطنين بتطور شامل في معيشتهم.. فقد يزداد الناتج المحلي دون تحسن حقيقي في مستويات المعيشة.
وهناك أيضًا نموذج التنمية البشرية يتبناه الاقتصادي والفيلسوف الهندي أمارتيا سين الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998، ويرى أن التنمية ليست نموًا اقتصاديًا فقط، بل هي توسيع قدرات الإنسان من خلال التعليم والصحة والحقوق والفرص، بمعنى أنه حتى لو حققت الدولة نموًا مرتفعًا في غياب تحسين مستوى الخدمات وعدالة توزيع الدخل.. يجعل المواطن غير قادر على الشعور به، وهو ما نتكلم عنه بالنسبة للحالة المصرية التي تركز على تحقيق معدلات نمو مرتفعة عن طريق مشاريع ضخمة وتوسع في البنية التحتية وزيادة في الاستثمارات الأجنبية، لكن دون زيادة في الدخل الحقيقي للأفراد رغم ارتفاع النمو.
فتركز النمو في قطاعات معينة كالعقارات والمشروعات القومية، وعدم التوزيع المتوازن لثمار النمو، يؤدي إلى استفادة شريحة صغيرة من ارتفاع النمو، بينما الأغلبية لا تشعر بهذا النمو.. ناهيك عن المشاكل الهيكلية في الاقتصاد، والتي تأكل الكثير من موازنة الدولة كخدمة الدين وتراجع قيمة العملة الذي يبتلع أثر النمو على حياة الأسر، كل ذلك له تأثير على تحسين مستوى الخدمات والدخل الحقيقي للمواطن.
اقرأ أيضا: حسين عبدربه يكتب: كيف نحمى الصناعة الوطنية من مخزون العالم؟
ولكن ماذا فعلت بعض الدول ليشعر مواطنوها بتحسن مستوى معيشتهم؟ فها هي ماليزيا ركزت على الاهتمام بالتعليم والتكنولوجيا والصناعات التمويلية، وربطت النمو بالتصدير والصناعات المحلية، فشعر المواطن بتحسن مستوى الخدمات والحصول على دخل مرتفع.. مع العلم أن ماليزيا لم تلجأ لصندوق النقد الدولي.
أما كوريا الجنوبية فاستثمرت بكثافة في التعليم والبحث العلمي، ودعمت الشركات الصغيرة والمتوسطة، ووفرت بيئة تنافسية للأعمال، فانظر إلى كوريا الآن وحال مواطنيها.. حتى رواندا الأفريقية التي كانت تعاني من مذابح بشرية في بداية التسعينات.. انتفضت وطبقت حكمًا رشيدًا وقللت الفساد، وركزت على الزراعة والتكنولوجيا والخدمات، وأدارت مواردها بكفاءة فارتفعت معدلات التنمية البشرية بشكل واضح.. وأيضًا البرازيل والهند وإندونيسيا وبنغلاديش وفيتنام، كلها دول ركزت على تحقيق التنمية وليس النمو، فتغير حالها لأحسن حال.
ولذلك علينا أن نركز ونحن على أعتاب نهاية برنامجنا مع صندوق النقد على أن يكون لدينا برنامج أو خطة لتحسين جودة التعليم والتدريب لتحسين الإنتاجية وتحفيز الصناعات المحلية والتصدير بدلًا من التركيز على القطاعات الربحية، وتوسيع قاعدة المستفيدين من النمو عبر دعم القطاع الخاص والمشروعات الصغيرة وإدارة فعالة للموارد وتقليل الفساد والهدر وربط خطط النمو بالتنمية البشرية والخدمات الاجتماعية. نعم تحقيق النمو مهم، ولكن ليس هدفًا في حد ذاته.. ما يهم المواطن في النهاية هو تحسن جودة حياته وقدرته على تلبية احتياجاته بكرامة.. ولهذا فإن التحول نحو سياسات تنموية شاملة هو الطريق الحقيقي لنمو يشعر به الجميع، وليس مجرد أرقام تعلن في التقارير الرسمية.








