بقلم فهمى هويدى- الشروق
لم يبالغ الرئيس التونسى المنصف المرزوقى حين قال إن الأمة العربية تنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية، وأن تلك النتائج سوف يكون لها تأثيرها على المستقبل العربى. ولم يبالغ فى ذلك المدون السعودى الذى استحضر صورة لإصبع امرأة مصرية اصطبغ بلون الحبر الدال على التصويت وعلق على ذلك قائلا إن حبر الحرية هذا أثمن من كل النفط الذى يملكه العرب. كذلك لم أفاجأ بالأصدقاء العرب الذين جاءوا إلى القاهرة والإسكندرية من أكثر من قطر شقيق، لكى يشبعوا أعينهم بطوابير التصويت على اختيار الرئيس، وظلوا فى الفنادق طوال الليل يتابعون النتائج. ولم يدهشنى أولئك الذين ألغوا ارتباطاتهم فى بعض العواصم العربية وجلسوا فى بيوتهم، بين محطات التليفزيون وأجهزة «اللاب توب» يسمعون الأخبار ويعلقون عليها. ومنهم من بعث يسألنى عن صحة ما قيل عن الرشاوى الانتخابية التى دفعت فى الغربية، وعن احتمالات التزوير أثناء مبيت الأوراق فى اللجان، ومنهم من اقترح علىّ أن أدعو إلى فحص كيمياء الطباعة بالنسبة لمربعات بعض المرشحين، وكذلك فحص أحبار الأقلام المستخدمة فى التصويت، لتجنب التلاعب فى مواقف الناخبين. وقد استغربت قلق ذلك القارئ العمانى وانشغاله بكيفية كشف ذلك التلاعب المفترض.
لا أدعى أن حركة الكون توقفت بسبب الانتخابات المصرية، رغم أن عواصم الدول الكبرى اهتمت بها وتحدث الإعلام البريطانى بدهشة عن إجراء ثلاثة انتخابات فى مصر خلال 12 شهرا، دون أن يضطرب البلد أو يهتز، وقد تمت كلها فى سلاسة وهدوء. لكنى أريد أن أنبه إلى أن العالم العربى على الأقل ينتظر بفارغ الصبر عودة مصر إلى موقعها ودورها وعافيتها، التى دفع الأشقاء ثمنا باهظا جراء غيابها وانكفائها والتحاقها بمعسكر الانكسار والتبعية.
جدير بالذكر فى هذا الصدد أن أصدقاءنا الباحثين العرب كانوا ولايزالون من بين المرحبين برفع شعار «مصر أولا»، لاقتناعهم بأن نهوض مصر يمثل رافعة تلقائية لنهوض العالم العربى. على العكس مما ارتآه بعض الذين رفعوا الشعار ممن أرادوا به إحداث قطيعة مع العالم العربى لكى تركز مصر على الالتحاق بالعالم الغربى، ومنهم من أراد لها أن تكتفى بتوثيق علاقتها مع إسرإئيل. حتى أصدقاؤنا من قادة المقاومة الفلسطينية الذين ترددوا على مصر بعد الثورة، كانت نصيحتهم لكل من التقوهم من المسئولين والإعلاميين المصريين، ألا يشغلوا أنفسهم فى الوقت الراهن بالملف الفلسطينى وعناوينه الشائكة، وأن يركزوا كل جهودهم لاستعادة عافية مصر وتثبيت قواعد الثورة فيها، لأن «مصر أولا» بهذا المعنى ستؤدى تلقائيا إلى إنعاش العالم العربى وإحيائه.
أستعيد هذه الخلفية فى الوقت الراهن، لأنها تنبهنا إلى أن اتساع نطاق التحدى الذى ينتظرنا فى الأسابيع القادمة، بعد ظهور النتائج الأولية لانتخابات الرئاسة، التى إذا صحت فإنها تشير إلى أن هناك إعادة منتظرة بين المرشحين الدكتور محمد مرسى والفريق أحمد شفيق. وهذه الإعادة تحتمل عدة قراءات إحداها أن أحدهما ينتمى إلى مرحلة إقامة النظام الديمقراطى الجديد، والثانية تعد امتدادا للنظام القديم. وهذه القراءة تعيدنا إلى مربع المواجهة بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. وهى المعادلة التى سبق أن نبهت إلى ضرورة الانتباه إليها فى خضم الصراع الذى احتدم فى مصر خلال الأسابيع الأخيرة، والتبس الأمر على البعض حتى تصوروا أن الصراع فى جوهره بين الإسلاميين والعلمانيين، فى حين أنه فى أصله ليس كذلك على الإطلاق. إن شئت فقل إن ذلك الصراع الأخير أقرب إلى التنافس من أى شىء آخر، بمعنى أنه تناقض ثانوى، فى حين أن التناقض الرئيسى والصراع الحقيقى هو بين الثورة وخصومها من أركان النظام السابق وأعوانه. واتضاح هذه النقطة يفرض على الجماعة الوطنية أن تستعيد رشدها وتفتح أعينها جيدا بحيث تفرق بين ما هو تناقض رئيسى يهدد بإجهاض الثورة وإفشالها، وبين ما هو هامشى يربك المسيرة ويشاغب عليها، لكنه يظل محافظا على الثورة ومدركا أن استمرارها وتثبيت أركانها هو المهمة الأولى والقدر الذى ينبغى الالتفاف حوله والاتفاق عليه، لأجل مصر ولأجل الأمة العربية التى تتطلع إليها.
هذا الاحتشاد المنشود من جانب عناصر الجماعة الوطنية يفرض نفسه بقوة فى الوقت الراهن، لأن أى تقاعس عنه أو تفريط فيه يمهد إلى للانقضاض على الثورة وتصفيتها. وإذا كانت التجاذبات والتراشقات قد استمرت بين مكونات تلك الجماعة خلال الأسابيع الماضية، إلا أنه فى مرحلة الإعادة بين المرشحين على الأقل، لا مفر من إيقاف كل صور التقاطع والتجاذب، والتركيز على إنقاذ الثورة واستمرارها. وهو خيار فرضته الأقدار علينا، مثلما وضعتنا أمام مفارقة أخرى مثيرة للانتباه. ذلك أننا ظللنا نهتف طوال الأشهر الماضية قائلين يسقط حكم العسكر، ثم فوجئنا بشبح استمرار حكم العسكر يطل علينا بوجه جديد متنكرا فى ثياب ديمقراطية تدعى الدفاع عن الثورة من خاطفيها!