بقلم: خالد حسنى مدبولى
عندما ترغب الدول والمجتمعات فى إحداث نقلة حضارية «سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية» فإنه لابد من إحداث تغيير فى منظومة المجتمع ككل بما يتضمنه ذلك من تغيير ثقافة أداء العمل وتشجيع المشاركة والإبداع والفكر الخلاّق والابتكار، وهو ما يستلزم وجود الرغبة والقدرة «أى الإرادة» لدى المجتمع لتحقيق ذلك. إلا أن الإرادة وحدها لا تكفى حيث يجب توافر الإدارة الكفء لهذه الدولة «المتمثلة فى الحكومة وهيئاتها المختلفة» التى تتميز بالمهارة والخبرة حتى تستطيع استخدام الموارد والإمكانيات المتاحة بكفاءة وفاعلية لتحقيق الأهداف المرجوة.
والإرادة المطلوب توافرها فى المجتمعات لتحقيق التطور والتقدم الاقتصادى يجب ألا تقتصر على الإرادة السياسية التى تمثلها السلطة الحاكمة بل يجب أن تكون هناك أيضاً إرادة شعبية مجتمعية أى إرادة جميع فئات وطبقات المجتمع. ويجب أن يقتنع كلا الطرفين بضرورة وأهمية تحقيق هذا التطور لأن ثماره يجنيها الجميع، وهو ما يستوجب توافر قدر كبير من الثقة بين السلطة الحاكمة وبين المواطنين.
أما الإدارة فقد أصبحت علماً وفناً، وأصبح تنفيذها يستوجب توافر ثالوث المعرفة والتدريب والخبرة «الممارسة العملية»، سواء على مستوى المؤسسات أو الدولة، لأن الإدارة الناجحة هى التى تُحسن استغلال الموارد المتاحة لديها «البشرية والمادية والفكرية» واستخدامها بأفضل ما يمكن لتحقيق أقصى قدر من المكاسب «Maximizing Profits» وتقليص الخسائر إلى أدنى حد ممكن «Minimizing Losses» لتحقيق الأهداف.
وأصبحت الإدارة الناجحة هى سر تفوق العديد من الشركات العالمية الكبرى بل والعديد من دول العالم، والتى لم تستطع أن تحقق هذا النجاح لولا توافر إرادة النجاح «الرغبة فى تحقيق الأهداف» وإدارة النجاح «كيفية تحقيق الأهداف».
وإذا نظرنا إلى المجتمع المصرى، فسوف نلاحظ حدوث تغير تدريجى واضح فى ثقافته منذ أكثر من نصف قرن لتسود مفاهيم «الاستغلال، الانتهازية، الرشوة، الواسطة والمحسوبية» وتغيب وتختفى مفاهيم «الاخلاص فى العمل، الكفاءة، المهارة، الخبرة العملية».
وبدأ المجتمع تدريجياً يفتقد إلى وجود الإدارة الجيدة صاحبة الخبرة العلمية والعملية القادرة على إحداث التغيير.
وأصبح أسلوب الإدارة المتبع فى العديد من المجالات يميل إلى العشوائية والتجربة والخطأ أكثر ما يميل إلى الدراسة والتحليل العلمى لعلاج الأزمات والمشاكل.
وأدى غياب إرادة النجاح مع فشل الإدارة فى مصر إلى سواد حالة من الفوضى والعبثية نعيشها ونلمسها فى شتى مجالات حياتنا إلا ما ندر، ونتج عن ذلك بطبيعة الحال تفاقم المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على مدار السنوات الماضية.
وإذا أردنا أن نوصّف المشاكل الاقتصادية فى مصر منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن فنستطيع القول انها مشاكل مزمنة وهيكلية ومتأصلة، لأنها لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل بأساليب علمية دقيقة لتحديد أصول المشاكل وأسبابها ثم وضع حلول جذرية لها، مما أدى إلى تفاقمها والعجز عن حلها أو القضاء عليها على مدار سنوات طويلة.
وغالباً ما كان يحدث نوع من الصدام بين الإرادة والإدارة، ففى حين كانت تتوافر أحياناً الإرادة الحقيقية لعلاج المشاكل الاقتصادية لم تكن تتوافر الإدارة الكفء لتحقيق ذلك، وعلى العكس عندما كانت تتوافر الإدارة الجيدة – فى بعض الأوقات – القادرة على وضع حلول للأزمات والمشاكل لم تكن تتوافر الإرادة المطلوبة لتحقيق ذلك.
وقد بدأت تزيد حدة المشاكل الاقتصادية المصرية منذ سبعينيات القرن الماضى وحتى الآن، وأبرزها ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة (الناتج عن ارتفاع نفقات الدعم والأجور مقابل نقص الموارد)، وتراجع معدلات الإنتاج، وعجز ميزان المدفوعات، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وزيادة الدين العام، بالإضافة إلى مشاكل سعر صرف العملة.
وترجع أسباب تلك المشاكل فى الأساس إلى فشل وضعف الإدارة سواء على مستوى الأفراد أو المشروعات أو المرافق أو الخدمات وعدم توافر أساليب الإدارة الحديثة ذات الكفاءة والفاعلية (وهى عيوب ومشاكل صارخة تظهر جليّاً فى شركات القطاع العام)، وهو ما أدى إلى تدنى وتراجع الإنتاج فى قطاعى الزراعة والصناعة، ومن ثم حدوث تخلف وخلل واضح فى هيكل الصادرات المصرية وعدم منافسة المنتجات المحلية للمنتجات الأجنبية المستوردة التى تفوقت على المنتج المصرى سواء فى الجودة أو السعر (وبالأخص المنتجات الصينية والتركية خلال السنوات العشر الماضية).
ويعتبر توافر الإرادة السياسية والشعبية مع الإدارة المحترفة الماهرة هى أنجح وأسرع الطرق لعلاج المشكلات المالية والاقتصادية فى أى دولة وبالأخص إذا التف المجتمع ككل حول هدف قومى واحد، وهو ما فعله مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزى فى بداية ثمانينيات القرن الماضى عندما وضع هدفاً وطنياً وقومياً تسعى جميع فئات المجتمع لتحقيقه واعتبرته تحدياً لها وهو أن تصبح ماليزيا من أكبر الاقتصاديات فى العالم بحلول عام 2020 (تعد ماليزيا اليوم من بين أكبر 20 اقتصاداً فى العالم).
كما وضعت الصين منذ نحو أكثر من 10 سنوات هدفاً عاماً تسعى الحكومة والمجتمع معاً لتحقيقه وهو أن تصبح الصين أكبر اقتصاد فى العالم، وهو ما اقتربت من تحقيقه بشكل كبير حيث يعد الاقتصاد الصينى حالياً ثانى أكبر اقتصاد فى العالم بعد الاقتصاد الأمريكى متفوقاً على كل من اليابان والاتحاد الأوروبى.
وعندما توافرت الإرادة السياسية (والشعبية إلى حدٍ ما) لدول أوروبا لإقامة اتحاد اقتصادى ومالى فيما بينها، بدأت فى المضى قدماً لتنفيذ ذلك الحُلم منذ عام 1957، وهو ما تحقق فى نهاية المطاف بوجود اتحاد أوروبى (معاهدة ماستريخت 1992) ومنطقة للعملة الموحدة (اليورو) بداية من عام 2002. إلا أن ذلك لم يكن يكتب له النجاح لولا وجود إدارة مالية ونقدية أوروبية على مستوى عالٍ من الاحترافية والمرونة لتحقيق ذلك من خلال اتباع سياسات وإجراءات تدريجية ووفقاً لتوقيتات زمنية محددة تراعى الظروف الاقتصادية للدول الأعضاء وأوضاع شعوبها، وذلك على الرغم مما تواجهه تجربة الوحدة الأوروبية ككل من انتقادات عديدة من قبل بعض شعوب دول أوروبا ذاتهم.
إلى غير ذلك من الأمثلة التى تثبت أن إرادة المجتمعات والشعوب تحدد مصيرها وتحدد ما ترغب فى تحقيقه من تقدم وازدهار اقتصادى، ومن ثم اعتلاء مكانة أفضل إقليمياً ودولياً، إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه بمجرد وجود الأمنيات وتوافر الرغبات، حيث لابد من وجود إدارة قوية ناجحة تجيد استخدام الموارد المتاحة لها بأفضل ما يمكن، وبدون ذلك فلا طريق للنجاح ولا سبيل لتحقيق التقدم والازدهار الاقتصادى المنشودين.








