شهدت مصر الكثير من المتغيرات الاقتصادية في الفترة الأخيرة أدت إلى ارتفاع غير مسبوق لأسعار الكثير من السلع والخدمات الهامة ليزيد معدل التضخم ويصل بنا إلى مستويات قياسية. ففي يناير 2014 بلغ معدل التضخم نسبة 12.2% بالمقارنة بنسبة 11.8% في ديسمبر 2013 ونسبة 6.6% في يناير 2013 .
ويجب أن نعلم أن الشركات المحلية والعربية والعالمية هي التي تنتظر وبفارغ الصبر الاستقرار السياسي في مصر بل وتترقب وتتابع كل المتغيرات السياسية لإقامة مشروعات لها في مصر ، وما نخصه في هذا المقال المشروعات كثيفة الاستخدام للطاقة التي تدعمها مصر لهذه الشركات, لاستغلال الطاقة المصرية كمدخل رئيسي في عملية الإنتاج بأسعار رخصيه مقارنة ببلاد أخرى ليكون نتيجتها أرباح خيالية لهؤلاء المستثمرين ، حيث تقوم هذه الشركات بتصنيع منتجات هامة بتكاليف رخيصة ثم تقوم ببيعها للأسواق الداخلية و الخارجية بالأسعار العالمية .
كما إن الاتجاه العالمي منذ سنوات كثيرة يضع إجراءات للحد من المشروعات كثيفة الاستخدام للطاقة ونقلها خارج أراضيها إلى بلاد تدعم الطاقة , وبدأت بالفعل العديد من الدول في تنفيذ خطة لغلق هذه المصانع , مما سيدفع هؤلاء المستثمرين للهجوم علينا خصوصاً لإنشاء مصانع لإنتاج الأسمنت , خاصة إن الدولة تدعم مصانع الاسمنت بعدة طرق الغير مبررة على الإطلاق حيث كانت تعطيهما الأرض بالمجان , والغاز مدعم بـ 150 جنيه للطن , ويحصلون علي الخامة من المحاجر بسعر يتراوح بين 5 و 14 جنيها للطن في حين إن سعره بالخارج كان بين 100 و 120 جنيها .
وبالتالي فان التكلفة الفعلية لطن الاسمنت تبلغ 150 جنيها , وبالتالي يجب إن يباع بسعر يتراوح بين 250 و 300 جنيه للطن إلا أنهم لم يلتزموا ورفعوا الأسعار لأكثر من ذلك , ليتم البيع في الخارج بسعر 450 جنيه للطن .
مصنع الاسمنت يمكن إن يتراوح مكسبه ما بين 200 مليون و 300 مليون جنيه في السنة ورأس المال المطلوب لإنشاء هذا المصنع حوالي 250 مليون جنيه فقط ، أي أن فترة الاسترداد تكون في سنة واحدة نتيجة حزمة , هذه مكاسب غير طبيعية لذلك يجب دراسة طويلة الأجل قبل الموافقة على المشروعات الجديدة كثيفة استخدام الطاقة , لأن إنشاء المصنع الجديد يستغرق من سنتين إلى ثلاث سنوات ليدخل الإنتاج الجديد في السوق, ونفس الشى يجب أن يتم على مصانع الحديد الجديدة فيجب التوازن بين ما أن نسعى الىة من التكامل الصناعي في هذه الصناعة من خلال إنتاج البليت والحديد الاسفنجى و المحافظة على القدرة التنافسية للمصانع الحالية ، والتعامل مع الممارسة الاحتكارية لهذه المصانع بمنتهى الحرص فيما يخص البيع بالسعر العالمي , يجب دراسة مدى جدية هؤلاء المستثمرين قبل الموافقة وأخذ كافة الضمانات قبل الحصول على أراضى من الدولة لإنشاء مصانع مثل الأسمنت ويجب دراسة إمكانياتهم المادية لإنشاء هذه المصانع ,حتى لا يتاجرون في هذه الأراضي .
وهو الأمر الذي سوف يسبب في هجوم من المستثمرين علينا تحت مسميات كثيرة مثل التعاون بين البلدين وتنشيط الاستثمار في الدول الفقيرة ودعم الاقتصاد والكلام الكثير الذي يستخدم لخداعنا مستغلاً بة تعطش السوق المصري للاستثمار والحالة الاقتصادية لمصر في هذه الفترة , فهو لا يعنيه الأمر المصري من قريب ولا بعيد ولكن للاستفادة من حزمة الدعم والتسهيلات ،وسيتقدم لنا هؤلاء في الفترة المقبلة لإنشاء مصانع جديدة ستكلفنا دعم طاقة بمليارات الجنيهات سوف ستدفع من جيوب المصريين , بالإضافة إلى إنشاء محطات كهرباء وغاز جديدة ستتكلف مليارات الجنيهات أيضاً جنيه لتوليد الكهرباء وتوفير احتياجات هذه المصانع .
منذ سنوات ونحن نتحدث وسنظل على مثل هذه الصناعات وخصوصاً كثيفة استخدام الطاقة المدعمة من مصر مثل الحديد والأسمنت والأسمدة والألمونيوم ،ومنها صناعة الألمونيوم أيضاً ،هل تعلم أن كل طن ألمونيوم كان يحتاج إلى دعم طاقة بقيمة 6 ألاف جنيه ، فلو تم تشغيل 300 عامل وموظف في هذا المصنع ، فان المصنع الواحد سيحتاج إلى دعم بحوالي 2 مليار جنيه وهو ما يعنى أن الدولة ستدعم فرصة العمل الواحدة فى هذا المصنع بحوالي مليون جنيه في صورة طاقة مدعمه ، وبنفس القياس في مصانع الاسمنت نحتاج دعم طاقة بحوالي 400 ألف جنيه لكل فرصة عمل , وفى الحديد بحوالي 300 ألف جنيه , وفى الأسمدة الأزوتية بحوالي 500 ألف جنيه.
هذه المعادلة البسيطة تؤكد وبدون أدنى شك أن المستثمر سواء مصري أو عربي أو أجنبي كان ومازال وسيظل يسعى لإقامة مثل هذه المشروعات في مصر ، والغريب أنة إذا ما فكرت الحكومة يوماً لزيادة أسعار الطاقة للمصانع كثيفة استخدام الطاقة المدعمة , يكون هناك رد فعل عنيف وسريع من أصحاب هذه المصانع , يمارسون فية ردود فعل شرعية وغير شرعية في محاولة منها للضغط على الحكومة لإلغاء التسعيرة الجديدة للطاقة من خلال ممارسة بعض الأساليب التي لا يدفع ثمنها غير المواطن البسيط ، حيت تقوم بزيادة أسعار منتجاتها تارة , وممارسة بعض الأساليب الاحتكارية تارة أخرى لتعطيش السوق ، وطبعاً الهدف من كل هذا هو الحفاظ على هامش ربح مبالغ فيه وغير مستحق , لتضيع مليارات الجنيهات على موازنة الدولة وتذهب لجيوب أصحاب هذه الشركات ، فيما يشير إلى ” تعليب الطاقة المدعمة في مصر وتصديرها للخارج”.
الحكومة قد أصدرت تشريعا في عام 2007 يقضي بموافقة المجلس الأعلى للطاقة، الذي يشارك فيه ممثلون عن وزارات البترول والكهرباء والصناعة والتخطيط، على أي مشروع صناعي كثيف الاستهلاك للطاقة، ، ولكن الغريب وبدون أي داعي ييتم تجميد جميع اجتماعات هذا المجلس عقب ثورة يناير 2011 رغم أهمية الدور الذي يقوم بة في الحد من تعليب الطاقة المدعمة في مصر وتصديرها للخارج ، إلى أن تم إعادة تشكيله في حكومة الدكتور الببلاوي ليلتقط المصريين الأنفاس بعد الثورة وينظر بمنتهى الشغف لجنة ثورية تساعده في تحقق أهداف ثورته والحد من الفساد والإسراف والوفاء باحتياجات السوق المحلى من الطاقة وتحقيق النمو، وتأمين إمدادات الطاقة من خلال التوسع فى الاستكشافات والتنقيب وتنويع المصادر، وتوفير الطاقة بأسعار اقتصادية، وتحقيق أعلى قيمة مضافة من الوقود المتاح، والحفاظ على معايير البيئة والتنمية المستدامة. وكنا نتحدث عن محطة بنها بطاقة 750 ميجاوات، ومحطة شمال الجيزة بطاقة 1000 ميجاوات، ومحطة العين السخنة بطاقة 1350 ميجاوات،ومحطة 6 أكتوبر الجديدة بطاقة 600 ميجاوات.
وكانت كلها أخبار سعيدة على المصريين إلى أن يحبطنا المجلس الأعلى للطاقة مرة أخرى وتوافق لجنته الوزارية للطاقة على طلب مقدم لإقامة 3 مشاريع صناعية كثيفة الاستهلاك للطاقة ، منها مشروعان لإجراء توسعات في قطاع الزجاج والسيراميك، ومشروع جديد لإنتاج السكر في الصعيد، بإجمالي استثمارات يصل إلى 2 مليار جنيه.
رغم أن هناك دراسة عملية كشفت إن 40 مصنعا في قطاعات الاسمنت وحديد التسليح والأسمدة الازوتية والالومنيوم والبتروكيماويات كانت تستهلك 75 % من الغاز الصناعي لمصر و 65% من الكهرباء وذلك بمتوسط 65% من الطاقة المدعمة , وهذه القطاعات كانت تسهم بما نسبته 20% فقط في الناتج الصناعي لمصر وتوظف 7% فقط من اجمالى العامل , وهى معادلة اقتصادية غير متوازنة , كان لابد من تصحيحها قبل اتخاذ قرارات تزيد من تفاقم المشاكل , وكان يجب في نفس التوقيت عمل حزمة من الإجراءات لزيادة الطاقة الكهربائية وتوفير احتياجات المواطنين منها في المقام الأول.
الواقع نحن في حرب مع المستفيدين والمرتزقة من دعم الطاقة في مصر , نريد سياسة جديدة لتسعير الطاقة تستهدف الحد من هذا الهجوم على الطاقة المدعمة في مصر لاستنزافها , نريد من الحكومة الجديدة إعداد خريطة للصناعية المتكاملة، التي تستهدف وضع تصور بالإنتاج الصناعي في كل المجالات.
يجب أن تكون السياسة الصناعية للدولة واضحة وتستهدف تشجيع الصناعات كثيفة العمالة مثل الغزل والمنسوجات والأغذية والصناعات الهندسية , أما الصناعات كثيفة استخدام الطاقة فان الموافقة على إقامة مشروعات جديدة في هذه القطاعات يجب أن يرتبط بدراسة حقيقية للسوق واحتياجاتنا المستقبلية , ويجب تجميد أي موافقة لمشروعات جديدة في هذه القطاعات إلا بعد انتهاء هذه الدراسة ومراعاة التشوه الكبير في توجيه دعم الطاقة .
يجب تشجع إنشاء صناعات كثيفة العمالة خصوصاً أن المصانع كثيفة العمالة والتي تشجيعها الدولة للحد من التزايد الغير طبيعي في معدلات البطالة.والعمل على تطوير المناطق الصناعية في الصعيد واستكمال المرافق الأساسية لهذه المناطق وعمل خطة لاستغلال أراضى شركات القطاع العام غير المستغلة لبناء مشروعات عليها تحت ضوابط قاسية لضمان الجدية وإعطاء مهلة إضافية نهائية للمستثمرين لإقامة مشروعه على الاراضى التي تم استلامها بالفعل في الماضي والتأكد من الملاءة المالية للمستثمر , بهدف منع الاتجار في الاراضى الصناعية , يجب أن نسعى لإنهاء هذه التشوهات وإغلاق ملف تجارة الأراضي الصناعية خلال المرحلة المقبلة .
المقال بقلم د جميل جمال الخبير الاقتصادي