ربما يتعين على الحكومة فى وسط أزمة نقص العملة وفجوات التمويل التى تعانيها منذ 4 سنوات بشكل مستمر أن تعود ولو لمرة واحدة لكتب الاقتصاد، فأحياناً تكون العودة للأساسيات خياراً مفيداً.
تخبرنا الكتب، والممارسات الدولية على مدار السنين أيضاً، أن حكومات العالم اخترعت مؤسسات مالية ذات طبيعة دولية لمساعدتها وقت الحاجة، ومن بين تلك المؤسسات واحدة تقدم المساعدة فى حالات اضطرابات أسواق العملة، وتدهور أوضاع الموازنات العمومية للدول، تسمى صندوق النقد الدولى.
وأدت سمعة الصندوق فى مرحلة ما قبل الأزمة العالمية، إضافة إلى عدم رغبة الحكومات المتتالية فى خوض تجارب إصلاحية جدية وإخضاع تنفيذ هذه التجارب لرقابة صارمة لتجاهل الصندوق حيناً، أو التردد فى التعامل معه أحياناً، وتمت الاستعاضة عن ذلك بحلول أكثر تكلفة تمثلت فى اتفاقيات القروض الثنائية (التى أبرمت فى عهد الإخوان)، والمساعدات السخية المشروطة سياسياً، وغير المراقبة، فى عهد المجلس العسكرى، وحكومات ما بعد 30 يونيو حتى الآن.
لقد سلكت مصر كل سبيل للحصول على تمويل خارجى لإنقاذ عملتها إلا سبيل الصندوق، لأنه يشترط برامج للإصلاح لم تتناسب يوماً مع الحسابات السياسية فى كل المراحل التى مرت بها مصر بعد 2011، على اختلاف توجهات 8 حكومات و4 حكام للبلاد.
لكن قبل كل شئ، ما الداعى لكتابة مثل هذا المقال الآن؟
الدواعى كثيرة، ليس أقلّها التراجع السريع والمستمر فى احتياطى البلاد (الذى لم نكن نملكه حقاً) من العملة الأجنبية، وأزمة نقص العملة الأجنبية المستحكمة، والتى يراها كل الناس إلا البنك المركزى والحكومة، إضافة إلى سوء إدارة المالية العامة المزمن والمستمر، رغم الإصلاحات التى يتم تمريرها بين الفنية والأخرى.
والموارد التقليدية التى اعتمدت عليها مصر خلال الأعوام الأربعة الأخيرة تبدو مأزومة، كما لم يحدث منا من قبل فى ظل تراجع أسعار البترول، الذى يمثل المورد الأساسى للدول العربية المانحة، إضافة إلى استهلاك وديعة حرب الخليج.
أما الاضطرابات الإقليمية واضطرابات الأسواق الناشئة، ومشاكل السوق المحلى فتحول بشكل كبير دون تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار المباشر فى مصر.
وجرى الترويج للتعامل مع صندوق النقد الدولى خلال عامى 2011 و2012 باعتبار أننا لسنا فى حاجة لقرض الصندوق بقدر ما نحن فى حاجة إلى شهادة ثقة، لتقديمها للمستثمرين والمؤسسات المالية حول العالم، وأن التوصل إلى اتفاقية مع الصندوق، وحده، كفيل بمنحنا هذه الشهادة.
لكن الحقيقة أننا فى حاجة إلى قرض الصندوق نفسه، بل فى حاجة للحصول على أكبر تمويل يمكننا الحصول عليه من الصندوق، فقط لنضع قدماً على أول طريق الخروج من أزمات المالية العامة وفجوة التمويل الحكومى، ومشاكل سوق الصرف، وقبلها تعزيز موارد البلاد من العملة الأجنبية وزيادة الاحتياطيات الدولية.
ومن الغريب أن تقبل مصر الاقتراض من أسواق الدين العالمية بفائدة فوق 5%، ولا تقبل بالتعامل مع الصندوق الذى يستطيع توفير موارد أكثر من أسواق الدين بفائدة لن تتخطى 2% فى أسوأ الأحوال.
كما أننا بحاجة فعلاً إلى شهادة ثقة من مؤسسة مستقلة حتى لو كانت هذه المؤسسة هى صندوق النقد الدولى، ليس لتقديمها للعالم، بل لتقديمها لنا نحن شعب هذا البلد ومواطنوه الذين يفتقرون إلى أى أداة للرقابة على أداء الحكومات والحكام منذ سنوات، لنضمن أن حداً أدنى من الخطوات يجرى قطعها فى الاتجاه الصحيح، وأن جزءاً ولو يسيراً من الإصلاحات سيتم اتخاذها لإنقاذ اقتصاد لا يبدو أن أحداً ممن يديرونه يهتم به، بقدر اهتمامهم بمواقعهم وسلطاتهم ومدى نفوذهم.
ماذا سيطلب الصندوق فى المقابل؟
الإجابة تكاد تكون معروفة، خفض قيمة العملة، توحيد سعر الصرف، تقليص كبير فى عجز الموازنة، هيكلة برامج الدعم وزيادة بعض أنواع الضرائب لتحقيق الاستقرار فى المالية العامة للدولة.
جيد، أليست هذه هى مطالبنا جميعاً التى لم تتحقق على مدار السنوات الأربع الماضية، هل سيضع الصندوق شروطاً أخرى؟
ربما، لكن ألسنا فعلاً فى حاجة لبرنامج إصلاحى قوى ومستدام لا يتوقف تطبيقه على الأهواء والأوضاع السياسية؟
قبل سنة و3 شهور جاء رئيس جديد للبلاد وطلب خفض عجز الموازنة وأعلن عن خطط للسيطرة على الإنفاق الحكومى رحب بها الجميع، لكن النتيجة فى نهاية العام المالى كانت مخيبة للآمال، فالعجز المالى تخطى 12% من الناتج المحلى والعملة استمرت فى التراجع وفشلت حزم المساعدات الخليجية الضخمة فى إصلاح الأوضاع.
فى النهاية ألقى باللوم على الحكومة وجرى تغييرها دون المساس بالسياسة العامة التى عطلت لسبب غير مفهوم خطط إصلاح دعم الطاقة التى كان يجب أن تستمر على مدار 5 سنوات، وفشلت فى التعامل مع توقعات المستثمرين، وتجاهد لتطبيق إصلاحات فى بيئة الاستثمار لا يفهمها أحد.
لماذا لا تجرب الحكومة الحالية التعامل مع الصندوق على الأقل حتى نصدق أن لديها برنامج اقتصادى متوسط المدى لإخراج البلاد من أزماتها، وحتى نعرف ما هى تفاصيل هذا البرنامج، وكيف سيطبق، وحتى نعرف كيف تفكر الحكومة فينا ولنا على مدار السنوات القليلة المقبلة، بدلاً من الخطط العريضة للسياسات الحكومية التى تعلن عنها الحكومة، وتعلن عن تغييرها أيضاً باستمرار ودون المحاسبة على جودة أو سوء التنفيذ.
رئيس الحكومة أعلن عن خطط لجمع 4 مليارات دولار من الخارج قبل نهاية العام الحالى، وهى خطط غير واقعية، ولن تتحقق، (الأرض التى سيتم طرحها للمصريين فى الخارج سيستغرق تحصيل ثمنها 5 سنوات)، مثل خطط أخرى كثيرة خلال السنوات الأخيرة.
أثبت التطبيق العملى لها، أنها كانت بعيدة عن أى واقع.
هذه التجرية يتعين على الحكومة الحالية خوضها مثلما خاضت كل الحكومات السابقة تجارب معظمها لم يؤد إلى شئ حقيقى على الأرض، على الأقل سنعرف هذه المرة على كم حصلت من المال، وكيف ستنفقه وفى مقابل ماذا، وهو ما لم يتوافر فى أى من المساعدات الضخمة التى حصلنا عليها سابقاً، من دول الخليج أو من غيرها، وهى مساعدات لم نعرف قط حجمها، ولا فيما أنفقت ولا من أنفقها ولا كيف؟.
وإذا كنا نعرف ما الذى يريده صندوق النقد الدولى، فنحن لم نعرف الشروط السياسية التى حصلنا بموجبها على المساعدات العربية، كما أننا لا نعرف تكلفتها الاقتصادية على وجه التحديد، حتى وإن كان معظمها على هيئة منح لا ترد.
وحتى فى الفترة التى حكم فيها الاخوان المسلمون وحصلوا على 10 مليارات دولار من قطر وتركيا وليبيا، لم نعرف فيما أنفقت تلك المساعدات، ولم يكن لنا كشعب دور فى الرقابة على إنفاقها ولا على توجيهها داخل شرايين الاقتصاد وأدت تلك المساعدات فى النهاية للتخلى عن الاصلاحات الحقيقية المطلوبة، وتبنى برامج سياسية لا تعبء بالإصلاحات الضرورية.
فى النهاية أعرف أنه يتم النظر إلى المؤسسات الدولية فى الوقت الحالى على أنها جزء من مؤامرة كونية لتقزيمنا والتغول علينا، بدءاً من منظمات حقوق الإنسان ومروراً بمؤسسات التمويل الدولية وصولاً إلى اتحادات كرة القدم القارية والدولية، لكننا بالفعل أعضاء فى كل هذه المؤسسات، ولن نخسر شيئاً إذا جربنا الحصول على مساعدتها، وإذا لم يكن هذا هو الوقت المناسب للجوء لمثل هذه المؤسسات لتصحيح أوضاعنا فليخبرنا أحدهم متى؟.