«يحاول أحمد، لأيام عديدة إكمال الأوراق الحكومية لتحويل أبنائه إلى مدرسة جديدة، وهذه ليست بالمهمة السهلة.. فمرة كان الشخص المسئول عن التوقيع على الأوراق فى إجازة، ومرة أخرى كان فى دورة المياه، وبعد أن تملك الإحباط منه، انتهى به الأمر بأخذ سلاح أحد الحراس فجأة واحتجز العديد من الرهائن».
هذه الأحداث الخيالية التى كانت قصة فيلم الإرهاب والكباب (إنتاج عام 1993)، بدأت بها مجلة الإيكونوميست البريطانية، تقريرها حول مواطنى العالم الذين يشتكون من الروتين والبيروقراطية.
وأضافت المجلة، أن الصعوبات التى جسدها الفيلم لاتزال مستمرة حتى يومنا هذا، وتصلح العديد من الأمثلة فى واقع الحياة للكثير من الروايات الكوميدية، ففى العراق، يصر الموظف المسئول عن تسجيل المواليد أن يسجل المواطنون أماكن ميلاد آبائهم نفسها، بغض النظر عن مكان ولادتهم، مما يسبب مشاكل لا نهاية لها، وعندما يحاول مواطن عراقى تغيير اسم ابنه، وهو أمر مصرح به قانوناً، يجب أن يذهب للمحكمة 18 مرة لإنجاز هذا التعديل البسيط.
ومن حسن الحظ أنه لم يحاول بدء عمل تجارى فى مصر، الأمر الذى يتطلب فى بعض الأحيان الحصول على تصاريح من 78 جهة مختلفة، فالأمور سيئة للغاية، حتى أن العام الحالى قال خلاله أحد الوزراء المصريين، مازحاً: «الخدمة المدنية يجب تفجيرها بالديناميت».
وذكرت «الإيكونوميست»، أن مواطنى العالم يشتكون من الروتين والبيروقراطية، ولكن مواطنى العالم العربى لديهم أسباب أكثر بكثير من غالبية سكان العالم للتذمر من الروتين. فالديكتاتوريون ودول الحزب الواحد، تعاملوا لفترة طويلة مع الخدمة المدنية على أنها وكالة لتوظيف الموالين لهم ومؤيديهم وأفراد العائلة أكثر من كونها جهة تقدم خدمات للشعب.
وتكون الآثار وخيمة، فتمويل هذا الجيش من الموظفين الجالسين دائماً على مكاتبهم، يأكل فى الميزانيات القومية، ويحول مسار العمالة المهرة عن القطاع الخاص الأكثر إنتاجية، فضلاً عن انكماش النمو الاقتصادى.
ففى بعض أجزاء منطقة الخليج الغنية بالبترول، على سبيل المثال، تقوم الدولة بتوظيف أكثر من نصف الموظفين العاملين، ويتوقع البنك الدولى أن البيروقراطيات فى منطقة الخليج أكبر من أى جزء فى العالم.
وتقول هالة السيد، الأستاذ فى جامعة القاهرة، إن العديد من هؤلاء الموظفين «لا يعملون على الإطلاق»، وتعتمد الترقيات على السن أو العلاقات، وليس الجدارة والاستحقاق، كما أنه من الصعب فصل هؤلاء الموظفين، حتى لو كان لأسباب تتعلق بعدم الكفاءة.
ويقول زايد العلى، أكاديمى فى جامعة برينستون، إن التغيب عن العمل منتشر على نطاق واسع بين هؤلاء الموظفين، لأسباب أقلها عدم وجود أى شخص يقوم برصد أداء الموظف، وعدم كفاءة البيروقراطيات العربية، لدرجة تتجاوز كونها سبباً فى إحباط المواطنين.
فالانتفاضات التى اندلعت عام 2010 وأطاحت بالأنظمة خلال ثورات الربيع العربى، كانت نداء من أجل الحصول على الخدمات بقدر ما كانت نداء للديمقراطية، ولكن الحكومات التى حلت محل تلك الأنظمة الديكتاتورية كانت أقل كفاءة فى العديد من الحالات، مما زاد مخاطر اندلاع مزيد من الثورات.
وتتصاعد الضغوط من أجل التغيير، إذ احتج العراقيون لأشهر عديدة ضد الفساد ونقص الخدمات الأساسية، وفى لبنان نزل المواطنون إلى الشوارع احتجاجاً على تراكم القمامة.
وأعلنت العديد من الدول عن تغييرات، إذ تم تمرير قانون فى مصر العام الحالى يحتوى على إصلاحات منطقية، مثل الإعلان عن فرص عمل واختبار المرشحين والمطالبة بمراجعات منتظمة للأداء، وتحاول العراق، أيضاً، القضاء على الفساد المنتشر بين موظفى المكاتب.
ويعتقد قلة أن تلك الإصلاحات ستنجح، إذ اعترض موظفو مصلحة الضرائب والنقابات على قانون الخدمة المدنية الجديد فى مصر، فى حين يحظر الساسة فى العراق التغيير هناك.
وفى لبنان، باءت بالفشل سريعاً، محاولة تعيين موظفى الخدمة المدنية على أساس الكفاءة عام 2005، خشية أن يزعزع هذا الإصلاح النظام الهش الذى يوزع الوظائف بين الجماعات الدينية المختلفة.
ويقول شانتا ديفاراجان، كبير اقتصادى البنك الدولى لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: «بدلاً من الإصلاح من أعلى، قد تحقق الدول نجاحاً أكبر إذا بدأت من الأسفل، من خلال جعل البيروقراطيين مسئولين أمام المواطنين على المستوى المحلى».
وأشار إلى أن المدارس الناجحة فى الضفة الغربية وغزة، حيث يقيم الآباء أداء المدرسين، لكن كل دولة لن تكون على استعداد لسلك هذا المسار، ويعود ذلك على نحو رئيسى إلى أنها تنطوى على نقطة ضعف، وهى قدرة الدولة على توزيع الهبات على تابعيها الأوفياء.
ويقول ديفاراجان: «يعد العقد الاجتماعى الذى تقدم بمقتضاه الدولة التعليم والصحة دون مقابل، ويكون فيه المواطنين مستهلكين سلميين، بمثابة عقد مفسوخ»، ولكن حتى الآن، لم يحل محله أى عقد آخر سواء كانت وظائف فى القطاع الحكومى أو الخاص، وبالتأكيد لم تحل محله الديمقراطية.