هل تستعد الصين بهدوء لتغيير سوق صناديق الاستثمار العالمية، تماماً كما أعادت تشكيل التجارة والتصنيع العالميين؟
وورد تساؤل مهم، مؤخراً، فى صحيفة «فاينانشيال تايمز» مفاده: «ماذا يحدث إذا تم إطلاق العنان لثروات الأسر الصينية فى العالم؟».
وكما قال مسئول صينى فى الوكالة الحكومية التى تدير النقد الأجنبى، فى فبراير الماضى، إنَّ المسئولين يفكرون فيما إذا كان يمكن استخدام البدل البالغ 50 ألف دولار لكل فرد للاستثمار فى الأوراق المالية، ومنتجات التأمين فى الخارج، لكن حالياً لا يمكن استخدام هذا المبلغ إلا فى تغطية نفقات مثل السفر إلى الخارج أو تكاليف التعليم.
وفى غضون ذلك، وافقت الحكومة الصينية على زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبى من خلال حصة رسمية، كما أنه من المقرر أن تطلق الصين برنامجاً استثمارياً بجانب هونج كونج، يُطلق عليه اسم «ويلث كونكت»، الذى سيسمح للمستثمرين الأفراد فى جنوب الصين بالاستثمار فى الخارج.
وذكرت مجلة «نيكاى آسيان ريفيو» اليابانية أن معدل الادخار فى الصين مرتفع للغاية، حيث يبلغ حوالى %40 من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما يقارن بمتوسط يقل عن %35 فى الاقتصادات الناشئة الأخرى وأقل من %25 فى معظم الاقتصادات المتقدمة.
وتعتبر المبالغ ضخمة، فقد أشارت تقديرات بنك «إتش إس بى سى» إلى أن إجمالى مدخرات الأسر الصينية سيبلغ 46 تريليون دولار من الأصول القابلة للاستثمار بحلول عام 2025، وهذا يعادل قيمة سوق السندات الأمريكية بالكامل، وبالمقارنة مع الهند، على سبيل المثال، تصل مدخرات الأسر فيها إلى 500 مليار دولار، لكن إذا سمحت البلاد فجأة لأسرها بالاستثمار فى الخارج، فسيكون المبلغ ضئيلاً فى الأسواق المالية العالمية، وإذا فتحت الصين بشكل كامل الاستثمارات الأجنبية أمام أسرها، فإن النتيجة ستكون أشبه بموجة مد وجزر.
وتلعب الصين بالفعل دوراً كبيراً فى الأسواق المالية الأمريكية والعالمية من خلال عمليات الشراء الرسمية للأوراق المالية الأجنبية حيث تواصل البلاد إدارة فوائض تجارية كبيرة مع العديد من الشركاء التجاريين، وعلى الأخص واشنطن.
وحالياً، تمتلك الصين سندات خزانة أمريكية بقيمة تقدر بنحو تريليون دولار، وليس من المبالغة القول إن الإنفاق من قبل الأسر المسرفة المعروفة والحكومة الأمريكية التى تستمر فى إدارة عجز كبير فى الميزانية والميزانيات يتم تمويله من قبل المدخرين الصينيين، كما أن المبالغ المعنية ضخمة لدرجة أنها غيرت بشكل جذرى طبيعة الأسواق المالية العالمية، وبعبارة أخرى، فإن هيمنة الصين المتزايدة على التمويل العالمى، والتى يمكن أن تقفز قفزة نوعية إذا تم إطلاق العنان لمدخرات الأسر بالكامل، هى الجانب الآخر من هيمنتها المتزايدة على تجارة البضائع العالمية.
ومنذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية فى عام 2001، أصبحت الصادرات الصينية من السلع المصنعة ذات أهمية متزايدة، لتتغلب على الأزمة المالية العالمية وحتى جائحة «كورونا»، كما أن الصين لاتزال تعتبر ورشة العمل فى العالم، وسيستمر هذا الأمر على الأرجح لأعوام قادمة.
ومثلما اتبعت الصين مساراً تدريجياً لفتح التجارة الدولية، فمن المرجح أن تكون حذرة بنفس القدر فى فتح الأسواق الخارجية أمام مدخرينها المحليين، وقد يؤدى الانفتاح السريع إلى إحداث فوضى ليس فقط فى الأسواق الصينية بل فى الأسواق العالمية أيضاً، نظراً لمدى كبر حجم هذا الأمر.
وأحد الأسباب الرئيسية وراء فتح المسئولين الصينيين ببطء لإمكانات الاستثمار هو تضييق الخناق على السوق المحلى المتضخم الذى يعانى العديد من قطاعاته، مثل العقارات، من فقاعة.
وقد يتسبب الافتتاح السريع للغاية فى حدوث انهيار فى السوق المحلى وانخفاض حاد فى قيمة اليوان، التى ارتفعت مؤخراً وسط تدفق الأموال الأجنبية إلى الصين، ولكن هناك بالتأكيد دافع سياسى لتحذير بكين، فتماماً كما هيمنت السلع الصينية ببطء على السوق العالمية، دون حدوث اضطراب كبير، فإن التسارع البطىء، وليس السريع، لتدفق المدخرات الصينية إلى الخارج سيكون أسهل بكثير من قبل الأسواق المالية الأجنبية والحكومات التى تنظمها.ويدرك الصينيون تماماً رد الفعل العنيف ضد اليابان فى الثمانينيات، الذى غالباً ما يتحول إلى رهاب الأجانب، عندما اشترت الشركات اليابانية أيقونات أمريكية مثل مركز «روكفلر سنتر» و«كولومبيا بيكتشرز».
وأوضحت «نيكاى آسيان ريفيو» أن المشاعر المعادية للصين عالية بالفعل فى جميع أنحاء العالم، بالنظر إلى أصول «كوفيد» الصينية، وكما يتضح من زيادة العنف ضد آسيا فى بعض الدول الغربية، وبالتالى، هناك أسباب سياسية جيدة وكذلك اقتصادية معقولة تجعل الصين تتقدم ببطء.
ومن الناحية الاقتصادية، مثل الكثير من تحرير التجارة الدولية، فإن تحرير التمويل الدولى يمنح فوائد اقتصادية كبيرة محتملة، ومثلما يستفيد المستهلكون الغربيون الآن من الأسعار المنخفضة لكل شىء من الأجهزة المنزلية إلى السيارات بفضل التجارة الدولية، مع تركز العديد من سلاسل التوريد التصنيعية حول الصين، ستستفيد الشركات الغربية من الوصول إلى مليارات الدولارات وربما تريليونات الدولارات الجديدة من صناديق الاستثمار التى تدخل الأسواق العالمية عن طريق الصين، كما يمكن أن تزداد الكفاءة الاقتصادية فى كل مكان من خلال التوفيق بين المقرضين والمقترضين، مثل التوفيق بين البائعين والمشترين عبر الدول، ويمكن أيضاً أن يرتفع الناتج المحلى الإجمالى العالمى ويستفيد المستهلكون، وكذلك الشركات، فى جميع أنحاء العالم.
لكن فى عالم السياسة الواقعية، تتعارض المكاسب الاقتصادية المتبادلة أحياناً مع قضايا السيادة الوطنية والأمن؛ وربما لهذا السبب، بدأ الصينيون صغاراً، ومن غير المرجح أن يدق تدفق ضئيل من مدخرات الأسر فى الأسواق المالية الأجنبية أجراس الإنذار، لكن على المدى الطويل، إذا اتبعت قصة التمويل الصينى النمط الذى حدده التصنيع والتجارة، فإن الاقتصاد العالمى سيبدو مختلفاً تماماً بعد جيل من الآن.








