هذه ليست السبعينيات، أو هكذا أكد لنا الاقتصاديون المحترمون بثقة، وصحيح أنه رغم أننا نواجه ارتفاعاً في مستويات التضخم، فثمة اختلافات طفيفة بين الماضي والحاضر.
التضخم المصحوب بركود اقتصادي يخلق رابحين وخاسرين، وعندما يتقلص الدخل الحقيقي القومي بسبب صدمات أسعار البترول كما حدث في السبعينيات أو الصدمات الحالية لأسعار الغذاء والطاقة، يتنافس المطالبون المتنافسون في الاقتصاد بشراسة لتعويض الدخل المفقود، وتنتج دوامة من ارتفاع الأجور والأسعار.
لاحظ ميلتون فريدمان أن التضخم “ظاهرة نقدية دائماً وأبداً”، ومن الواضح أن المال عنصر مهم في العملية التضخمية، ومع ذلك، فإن الإضرابات في المملكة المتحدة وضيق المعروض من العمالة في أسواق العمل في جميع أنحاء العالم المتقدم، يشيران إلى أنه لا يمكن أن يكون أي تفسير للتضخم كاملاً دون الإشارة إلى صراع القوة التوزيعية بين العمل ورأس المال.
بينما هنأ محافظو البنوك المركزية أنفسهم على تقديم تضخم منخفض ومستقر خلال ما يسمى بالاعتدال العظيم في العقود الثلاثة التي سبقت الأزمة المالية في 2007-2009، كان تراجع التضخم في الواقع نتيجة لصدمة سوق العمل العالمية الناشئة عن بروز دور الصين والهند وشرق أوروبا في الاقتصاد العالمي.
وقد كفل ذلك وجود اتجاه تنازلي طويل الأجل في حصة العمالة من الدخل القومي، واستولى رأس المال على مكاسب الإنتاجية بالكامل، وقد تعززت قوة الدفع المضادة للتضخم من خلال العوامل الديموغرافية والتشعبات الأوسع للعولمة.
أدى الضعف في عوائد العمالة إلى تراجع الاستهلاك والإنتاج لأن العمال لديهم ميل أعلى للاستهلاك من أصحاب رأس المال الذين لديهم معدلات ادخار أعلى، وأدى هذا إلى سياسات نقدية توسعية مستوطنة.
وكما أشار الاقتصاديون في بنك التسويات الدولية منذ فترة طويلة، فإن البنوك المركزية لم تتكئ على فترات الازدهار وإنما خففت السياسة النقدية بشدة دوماً أثناء فترات الركود، وقد ترسخ هذا الميل لسياسة فضفاضة بعد الأزمة المالية من خلال برامج شراء الأصول للبنوك المركزية.
يجادل ويليام وايت، الرئيس السابق للقسم النقدي والاقتصادي في بنك التسويات الدولية ، بأن البنوك المركزية تجاهلت بشكل منهجي صدمات جانب العرض وفي جائحة كوفيد -19 فشلت في فهم مدى انخفاض إمكانات العرض بسبب الوباء وعمليات الإغلاق.
في الواقع، كرروا خطأ رئيس الاحتياطي الفيدرالي آرثر بيرنز، الذي جادل في السبعينيات بأن صدمة أسعار النفط كانت مجرد صدمة مؤقتة بينما تجاهل تأثير الجولة الثانية، لا سيما في سوق العمل.
في خطابه أمام المخيم السنوي لمحافظي البنوك المركزية في جاكسون هول الشهر الماضي، أشار رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جاي باول إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي كان متأخراً في معالجة التضخم، قائلاً إن التكاليف التي يتكبدها التوظيف لخفض التضخم من المرجح أن تزداد مع تأخير التعامل مع التضخم، مضيفاً أننا ” يجب أن نستمر في ذلك حتى تنتهي المهمة”، تكمن الصعوبة هنا في أن ديون القطاعين الخاص والعام وصلت إلى مستويات أعلى مما كانت عليه قبل الأزمة المالية، وبالتالي فإن تكاليف الواقعة على الإنتاج والعمالة من أسعار الفائدة شديدة الارتفاع ستكون باهظة للغاية.
يثير فخ الديون هذا بشكل حاد، السؤال طويل الأمد حول سياسات البنوك المركزية: كيف تقنع السياسيين والجمهور بأن الركود المتواضع الآن هو ثمن يستحق الدفع لتجنب ركود أسوأ بكثير في وقت لاحق، وما على المحك هو استقلال البنوك المركزية؟
يشير المسار الأكثر تشددًا للاحتياطي الفيدرالي إلى أن سوق السندات الهابطة ستستمر، ويبدو أن انتعاش الأسهم في الصيف كان وهمياً، ويشير ستيفن بليتز من “تي إس لومبارد” إلى أن سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يكون لها تأثير على الأسهم وليس خلق الائتمان لأن السياسة الفضفاضة في 2010 – 2019 وما بعد فيروس كورونا تصل إلى حد وصفها بدورة أصول، وليس دورة الائتمان. ويضيف أن الأصول المالية مرتفعة التقييم كانت مصدر التشوهات الاقتصادية في هذه الدورة.
سيعني تصحيح هذه التشوهات بعض التناقضات الملحوظة مع السبعينيات، اليوم، يؤدي تقلص القوة العاملة وانحسار العولمة إلى قلب ميزان القوى من رأس المال إلى العمل، وانتقلنا من الاعتدال العظيم عبر الأزمة المالية الكبرى ثم إلى مرحلة التحول الكبير لبيئة التضخم الأعلى.
كما أنه عالم ستؤدي فيه التركيبة السامة من فخ الديون وانكماش ميزانيات البنوك المركزية إلى زيادة مخاطر الأزمات المالية بشكل كبير، وبينما تعد الميزانيات العمومية للبنوك التجارية في حالة أفضل مما كانت عليه في عام 2008، فإن البنوك غير الشفافة غير الخاضعة للتنظيم والشفافية تشكل تهديدًا شاملاً محتملاً، كما أشار انهيار مكتب عائلة “أركيجوس” العام الماضي، وأحد الدروس المهمة في التاريخ هو أنه بعد حدوث “فقاعة في كل شيء”، يتبين أنها أكبر بكثير مما افترضه الجميع في ذلك الوقت.
بقلم: جون بليندر، صحفي مالي بريطاني ويكتب مقالات رأي في “فاينانشيال تايمز”
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”.