عندما يتعلق الأمر بالمناقشات حول قدرات التصنيع فى الصين، ثمة انفصال متكرر للغاية بين الخطاب والواقع.
من ناحية، من المفهوم على نطاق واسع أن المنتجين الصينيين يفقدون القدرة التنافسية النسبية، حيث تتسبب ارتفاع تكاليف العمالة والخلافات التجارية المريرة والتوترات الجيوسياسية المتزايدة والسعى المحلى لسياسة «صفر كوفيد» فى تشجيع المصدرين على مغادرة البلاد.
بالتالى، يُقال إن الصين قد تجاوزت «ذروة التصنيع»، ويتوقع أن تحل محلها دول أخرى فى المنطقة باعتبارها مصنع عالمى. بالتبعية، سيؤثر هذا مادياً على المسار الاقتصادى للصين والتوازنات الجيوسياسية المتطورة فى المنطقة.
من ناحية أخرى، كان ثمة نقص فى الأدلة الموضوعية المقدمة لدعم الحجة المذكورة أعلاه.
فرغم كثرة الروايات حول نقل بعض الشركات للإنتاج خارج الصين، تشير البيانات إلى أن مثل هذه التحركات ليست على النطاق الضرورى لعكس الزخم التصاعدى لقاعدة التصنيع فى البلاد، ولا قدرتها التنافسية الدولية.
وذكرت مجلة «نيكاى آسيان ريفيو« اليابانية أن الدليل الأكثر وضوحاً على ذلك هو التدفقات التجارية.
الأمر لا يقتصر على بقاء الصادرات الصينية قوية بشكل ملحوظ رغم عمليات الإغلاق المرتبطة بكوفيد.
كذلك، تشير أحدث الأرقام الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن المنتجين الصينيين أصبحوا أكثر قدرة على المنافسة فى الأعوام الأخيرة، وليس أقل.
كانت الصادرات الصينية من السلع المصنعة، على سبيل المثال، تنمو بشكل أسرع كبير وأسرع من صادرات ألمانيا أو الولايات المتحدة أو اليابان أو كوريا الجنوبية.
ونتيجة لذلك، ارتفعت حصة الصين من الصادرات المصنعة العالمية من حيث القيمة إلى مستوى مرتفع جديد بلغ %21 العام الماضى، مقارنة بـ%17 فقط فى عام 2017، وأصبحت البلاد الآن مورداً دولياً أكثر أهمية من ألمانيا والولايات المتحدة واليابان مجتمعين.
علاوة على ذلك، على عكس الرأى القائل بأن سلاسل الإمداد تقلل من تعرضها للصين، عززت الجهات المصنعة الصينية أسبقيتها فى الغالبية العظمى من القطاعات خلال الأعوام الأخيرة.
فى الواقع، ما يلفت الانتباه بشكل خاص حول الهيكل التجارى المتطور للصين هو أنها تمكنت فى الوقت نفسه من الاستحواذ على حصة تصدير فى كل من الصناعات منخفضة وعالية التكنولوجيا، بما فى ذلك الصناعات الانتقائية مثل المنتجات الجلدية ومقطورات الشاحنات والأدوات البصرية.
تشير هذه المكاسب بالكاد إلى وجود قاعدة صناعية تحت الضغط، وبدلاً من ذلك، يسلطون الضوء على القدرة التنافسية المفرطة للمنتجين الصينيين، الذين يهيمنون بشكل متزايد على مشهد التصنيع فى شرق وجنوب شرق آسيا.
ورغم كل الأحاديث المثارة حول مغادرة الشركات للصين والتغيرات الجغرافية لسلاسل الإمداد، فإن الحقيقة هى أنها أنتجت ما يقرب من نصف الصادرات المصنعة فى المنطقة فى عام 2021، مقارنة بأقل من الثلث قبل 15 عاماً.
هذه القدرة التنافسية مستمدة من التفاعل المعقد والمعزز ذاتياً لعوامل متعددة، وكثير منها يعتمد على حجم الصين، وهذا يسمح للدولة بدعم مستويات أعلى بكثير من المنافسة المحلية والابتكار والتخصص من جيرانها، ويؤدى إلى زيادة الكفاءة وانخفاض تكاليف الإنتاج، وهو ما سيكافح المنافسون الإقليميون دائماً لتكراره.
عادةً ما تُضخم فوائد هذا الأمر لاحقاً من خلال سياسات التنمية الصناعية العدوانية التى ليس لها سابقة واضحة من حيث النطاق أو الطموح.
لذلك يجب النظر إلى مزايا التصنيع فى الصين بشكل كلى، خصوصا أنه قد يكون مضللاً للغاية، مهما كان مغرياً، استخلاص استنتاجات بناءً على اتجاهات أى عامل محدد.
لا شك أن الأجور المتزايدة سريعاً فى البلاد، على سبيل المثال، تجذب الكثير من الاهتمام، لكن سيكون من الخطأ افتراض أن هذا يشير إلى فقدان القدرة التنافسية فى الصناعات التى تتطلب عمالة كثيفة.
بدلاً من ذلك، فهو يعكس تحسينات كبيرة فى الإنتاجية وتحولاً هيكلياً أوسع نطاقاً فى قطاعات التكنولوجيا العليا.
علاوة على ذلك، فإن استخدام المتوسطات الوطنية يخفى تنوع القوى العاملة فى الصين، مع وجود مجموعة كبيرة من الأجور المنخفضة نسبياً.
على هذا النحو، ورغم كل الحكايات التى يتم الاستشهاد بها بشكل متكرر، لا يوجد دليل حقيقى على أن العوامل التى تدعم القدرة التنافسية للصين قد انعكست.
بدلاً من ذلك، ستستمر الصناعات فى آسيا فى التركيز فى الصين، مما يزيد من ترسيخ مكانتها باعتبارها جوهر النظام الاقتصادى فى المنطقة، وهذا هو التحدى بالنسبة لبقية المنطقة.
فى مواجهة هجمة المنتجات الصينية شديدة التنافسية، ستكافح الاقتصادات الناشئة لتطوير قطاعات التصنيع التى تحتاجها لتحقيق النمو الذى تقوده الإنتاجية والحفاظ عليه على المدى الطويل.
لكن حتى الدول الأكثر تقدماً ليست محصنة ضد الضغوط التى تسببها الصين، إذ يشكل تفريغ هياكلها الصناعية خطراً حقيقيًا للغاية، كما يُظهر إزاحة الشركات المصنعة اليابانية والكورية الجنوبية من أسواق معدات الاتصالات السلكية واللاسلكية العالمية وبناء السفن مدى السرعة التى يمكن أن تتفاعل بها الصين مع جيرانها فى ألعابهم الخاصة، والفوز أيضاً.
بالتالى، فإن الواقع لا يمكن أن يكون أكثر اختلافاً بالنسبة لجميع الاقتراحات بأن قبضة الصين على التصنيع آخذة فى الضعف، لأن المنتجين الصينيين ليسوا من يفقدون نفوذهم.. بل منافسيهم فى جميع أنحاء المنطقة.








