من لم يقرأ ما كتبه ابن خلدون فى مقدمته عن «العمران»، لم يدرك قيمته، ومن لم يدرك قيمة وماهية العمران، فليس بمطور.
الجنة هى وعد الله لعباده فى الآخرة، وجعل الله الجنة «مسكن»، فقال تعالى “جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (72) التوبة.
يضم السوق العقارى فى مصر، نخبة من «المطورين»، الذين يتمتعون بخبرات وكفاءات وسابقة أعمال طويلة، امتدت للتنمية والتطوير والعمران، وبرزت بصماتهم فى المدن والمشروعات الجديدة المتكاملة، وتعد مساهمتهم تعبيرًا حقيقيًا مرادفًا للحياة.
وفى ظل متغيرات الحالة الاقتصادية الدولية والمحلية، بات السوق العقارى المصرى جاذبًا للكثير من المستثمرين، الذين اقتحموا المجال دون خلفية حقيقية أو معرفة بأصول المشهد العقارى، وتحولت أفعالهم إلى ظاهرة تشبه فعلة “السامرى” التى برزت فى متن آيات القرآن الكريم.
والسامرى، ذاك الرجل الذى أغوى بنى إسرائيل بعد أن ذهب موسى لميقات ربه، إذ رأى أثر فرس سيدنا جبريل عليه السلام، وقيل إنّ فرسه كانت كلّما داست على موضع أخضرّ وأنبتت فيه الحياة، فأخذ من أثرها، أى من “ترابها” ثمّ ألقاه على هذا العجل، الذى صنعه من الذهب فصار له خوار، بدلًا من الحياة، لأن الفعل للملاك وليس له.
وهذا ما ذكره الله على لسان موسى فى قوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ}، فقال: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِي}.
ومثلما أدرك “السامرى” الحياة فى أثر فرس جبريل، أدرك كذلك “المستثمرون الجدد”، العائد الكبير الذى يحققه أبناء الصنعة من «المطورين»، فشدوا رحالهم مهرولين إلى الانتماء للقطاع العقارى بغية الاستثمار والتنمية والمشاركة الفاعلة، رغم أن العديد منهم جاءوا من قطاعات اقتصادية أخرى، وبعضهم لا يتمتع بالملاءة المالية القوية، فضلًا عن ضعف خبرتهم فى تمثيل القطاع ومشاريعه وخططه الآنية والمستقبلية.
وربما من الوهلة الأولى اعتقد هؤلاء الوافدون الجدد إلى ساحة السوق العقارى المصرى، أنهم يمتلكون الكفاءة والقدرة التى تمكنهم من مزاحمة قدامى المطورين ومنافستهم، مثلما فعل “السامرى”، الذى اعتقد ظنًا بقدرته على منح الحياة للآخرين، ملقيًا على “عجله المصنوع”، حفنة من أثر الرسول، كى تدب فيه الحياة.
ولا يمكن بحال حصر خبرة وقدرة مطورى السوق العقارى فى العمق القاهرى، فى مجموعة من المظاهر التى لا تتعدى البروباجندا التسويقية، أو الحملات الإعلانية، التى يتصدرها الفنانون والمشاهير، متناسين أو متجاهلين طوعاً أو جبراً، قيمة العمران وأهميته التاريخية والحضارية قديمًا وحديثًا.
سر الحياة من أثر الفرس كان فى سيدنا جبريل، وسر التطوير والعمران، يعتمد على العلم والدراسات، والخبرات، ولا يمكن على الإطلاق أن يتساوى أصحاب الخبرات المتراكمة والممتدة من المطورين، المدركين لحقيقة الدور المنوط بهم فى الحفاظ على الهوية المعمارية المصرية، وبين التاجر الذى لا يعنيه سوى المكسب والاستحواذ، فثمة فارق بينهما كبير فى إدارك أهمية الأجندة الوطنية وأولوياتها الحضارية.
السامرى.. صنع عجل من الذهب ليست به روح بل خوار، وتجربة هؤلاء لم تصنع عمرانًا وحياة، كما أن محاكاة المطورين لن تكسبهم الصفة نفسها، وتلك الظاهرة تحتاج إلى حلول لتجنب تعثر الشركات الجديدة، حتى لا يفتح السوق العقارى ذراعيه أمام كل “سامرى” جديد.