الغذاء يلعب دورًا بارزا في دفع معدلات التضخم الرئيسية بالمنطقة
كان من المتوقع أن يتلاشى التضخم سريعاً هذا العام، بعد ارتفاعه في 2022، لأسباب ليس أقلها دورة التشديد الحادة التي شرعت فيها معظم البنوك المركزية في العالم.
مع ذلك، تروي البيانات قصة مختلفة بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر من 2023، إذ انخفض التضخم الاستهلاكي الأمريكي بشكل كبير عن معدل الذروة البالغ 9.1% المُسجل في يونيو الماضي، لكنه لايزال بعيدًا عن مستهدف بنك الاحتياطي الفيدرالي.
كما ظل مؤشر أسعار المستهلك لشهر فبراير أعلى بنسبة 6% عن العام السابق.
في الواقع، كان تراجع التضخم أبطأ من المتوقع عالمياً، إذ توقع صندوق النقد الدولي في أبريل 2022 ارتفاع التضخم العالمي للعام إلى 7.4% بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ارتفاعًا من 4.7% في 2021، لكنه قدر في يناير الماضي معدل التضخم السنوي لعام 2022 بنسبة 8.8%.
آسيا ليست أفضل بكثير من بقية العالم، وإذا كان هناك أي شيء، فإن التضخم في المنطقة يثبت أنه أكثر عنادًا، حسب مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
بالرغم من أن المنطقة لم تشهد ارتفاعًا هائلاً في التضخم مثل الغرب خلال العام الماضي، إلا أن مؤشرات أسعار المستهلك تواصل ارتفاعها إلى أعلى مستوياتها منذ عقد، ولم يكن هناك تصحيح ملحوظ حتى الآن.
أبلغت جميع الاقتصادات الآسيوية الرئيسية، باستثناء تايلاند، عن تضخم ثابت أو متزايد في أسعار المستهلك خلال العام الجاري، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بالمنطقة بنسبة 4.1% على أساس سنوي في يناير، أي أقل بـ0.5% من ذروته في سبتمبر الماضي، فيما كانت بيانات فبراير أفضل قليلاً.
تعد أسعار المواد الغذائية، التي تمثل أكثر من ربع مؤشر أسعار المستهلك الآسيوي، سبباً رئيسياً في دفع معدل التضخم الرئيسي.
رغم ارتفاع الدعم والتدابير الحكومية الأخرى للحد من ارتفاع الأسعار، بلغ تضخم المواد الغذائية في يناير ضعف متوسط الخمسة أعوام السابقة لتفشي كوفيد والذي بلغ 3.1%، كما سجل المؤشر ارتفاعاً جديدة في كل من اليابان وهونج كونج والفلبين وسنغافورة.
لم يتضح ما إذا كان تضخم أسعار الغذاء سينخفض بشكل ملحوظ خلال بقية العام، خاصة أن ارتفاع أسعار الحبوب والأحداث المناخية وتفشي الأمراض الحيوانية وارتفاع تكاليف الأعلاف تأتي ضمن المشكلات التي قد تؤدي إلى ارتفاع فواتير البقالة.
إذا حدث ذلك، فإن الحكومات لن تتمكن على الأرجح من التدخل بشكل كبير، خاصة أن الإنفاق المرتفع على مدى ثلاثة أعوام في ظل الجائحة لم يترك لهم خيارًا سوى التركيز على تضييق عجز الميزانية لإبقاء تكاليف الاقتراض تحت السيطرة.
ثمة عوامل أخرى تلعب دورًا أيضًا، فقد قاد إعادة فتح الصين في وقت مبكر عن المتوقع الاقتصاديين لتعزيز توقعاتهم للنمو الاقتصادي في آسيا لعام 2023.
عادةً، قد يكون هذا تطورًا إيجابيًا، لكنه دليلاً على تحول التركيز سريعاً نحو الآثار الجانبية المحتملة للطلب الذي يظل أقوى لفترة أطول.
يمكن للمرء أن يناقش إلى أي مدى سيعود تعافي الصين، والذي من المرجح أن يقوده قطاع الخدمات، بالنفع على بقية آسيا وبقية العالم.
مع ذلك، لا يزال الطلب يتسم بالقوة لدى العديد من الاقتصادات الآسيوية، بما فيها الهند وجنوب شرق آسيا.
كما ظلت معدلات التضخم الأساسية باستثناء العناصر المتقلبة مثل الغذاء والوقود عند مستويات مرتفعة، ففي اليابان وسنغافورة، بلغ المعدل الأساسي مستويات مرتفعة جديدة.
هذا الأمر يتعزز بفعل أسواق العمل الضيقة ونمو الأجور القوي، إذ تشير النسب المنخفضة التي تقارن الوظائف الشاغرة إلى رتب العاطلين عن العمل إلى وجود اعتدال في الطلب على العمالة والأجور.
لكن حتى الانتعاش الجزئي هذا العام في عدد السياح الصينيين الوافدين إلى جنوب شرق آسيا- 40% من مستويات ما قبل الوباء مثلاً- من شأنه رفع الطلب على العمالة في قطاع الضيافة والصناعات الأخرى المتعلقة بالسياحة، وهذا من شأنه تأجيل نقطة انعطاف التوظيف، خاصة في تايلاند وفيتنام وسنغافورة، ويحافظ على ارتفاع نمو الأجور للعام الثاني على التوالي.
من المهم أيضًا التحدث عن تكاليف المواد، فقد انخفض تضخم أسعار المنتجين، الذي يعكس بشكل كبير أسعار السلع الأولية، إلى 3% من ذروته البالغة 11.6% في نوفمبر 2021.
يُتوقع تقديم بعض الدعم لأسعار السلع الأساسية، مع تعافي الطلب الصيني من انخفاضه الحاد في 2021، وهذا لا يعني ارتفاع الأسعار إلى ذروة جديدة، لكنها لن تنخفض على الأرجح إلى أدنى مستوياتها هذا العام كما كان متوقعًا في السابق أيضًا.
من المؤكد أن استمرار ضغوط جانب العرض والطلب يعني اتجاهاً هابطاً بطيئاً ووعراً في التضخم في آسيا وعمل أكثر للبنوك المركزية التي اختار بعضها وقف رفع أسعار الفائدة مؤقتًا إثر تزايد علامات الضعف الاقتصادي ومخاوف الاستقرار المالي، لكن قد يكون هذا مؤقتًا إذا استمر الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة رغم الاضطرابات الأخيرة في القطاع المصرفي الأمريكي.
آخر ما قد تحتاجه آسيا الآن هي نوبة أخرى من التراجع السريع لعملاتها ومصدر آخر للتضخم.
وفي النهاية، ستكون معظم البنوك المركزية بالمنطقة مستعدة لدفع ثمن المزيد من التشديد النقدي والنمو المنخفض لتجنب شبح التضخم الراسخ.








