اتساع الفارق بين السعر الرسمى وسعر السوق يقصر المنافع على فئات بعينها
الانتقال للسعر الذى يحدث توزان بين العرض والطلب لن يدفع التضخم للارتفاع بالضرورة
قالت ورقة بحثية صادرة عن صندوق النقد الدولى، إن بعض البنوك المركزية تحافظ على سعر الصرف رغم عدم قدرتها على تأمين المعروض من العملات الأجنبية الذى يقابل احتياجات الطلب فى العمليات الجارية عند ذلك السعر، ومن ثم ينشأ سوق موازية بسعر أقل للعملة المحلية، وفى تلك الظروف يتسع الفارق بين السعرين الرسمى والموازى، فيما تعكس مستويات التضخم أسعار الصرف فى السوق الموازية.
وتشير الورقة التى أعدها سيمون جراى، رئيس قسم المساعدة الفنية بإدارة الأسواق النقدية والرأسمالية فى صندوق النقد الدولى، إلى أن البنوك المركزية تبدأ فى إدراك الحقيقة عبر السماح للوكلاء الاقتصاديين باستخدام السعر السائد، بما ينعكس على النشاط الاقتصادى بدون تحفيز التضخم، لكن الحفاظ على توحيد سعر الصرف لن يستمر بدون سياق مالى ونقدى داعم.
ووفق البحث فإن جميع معاملات الحساب الجارى المشروعة يجب أن تتم عبر سعر صرف واحد؛ ولكن فى بعض البلدان، يوجد سعران أو أكثر من أسعار الصرف لمعاملات الحساب الجارى، ما بين – سعر “رسمى” لا يتم فيه تلبية الطلب على العملات الأجنبية بشكل كامل، وسعر السوق الموازى.
وقال إن ذلك قد يتعارض مع التزامات الدول بموجب المادة الثامنة لصندوق النقد الدولى، والتى تمنع دفع السلطات للبنوك على ممارسات العملات المتعددة، ولكن رغم ظهور أسواق مفتتة لسعر الصرف، بفوارق كبيرة عن السعر الرسمى بفعل قرارات حكومية، فإنه يصعب اعتبارها مدفوعة بقرارات رسمية، إذ أن الحكومات تمنع المعاملات فى تلك الأسواق.
أضاف أن الضعف فى ميزان المدفوعات وضغوط أسعار الصرف المرتبطة بكورونا، ساهمت فى تفاقم الأوضاع فى معظم هذه الحالات.
وتشير دراسات الحالة للبلدان التى قامت بتوحيد سعر الصرف عند مستوى السوق، على مدى السنوات العشر الماضية، إلى أن خفض السعر الرسمى ليس من المحتمل فى حد ذاته أن يؤدى إلى زيادة حادة فى التضخم، لأن الأسعار فى الاقتصاد الحقيقى تميل إلى عكس سعر الصرف فى السوق الموازية بالفعل.
وقال البحث، إن هناك أيضًا بعض الأدلة على أن القضاء على التشوهات يمكن أن يعطى دفعة كبيرة للتنمية الاقتصادية، عن طريق إزالة عدم اليقين بشأن توافر العملات الأجنبية وتعزيز القدرة التنافسية.
وأشار إلى أنه فى بعض الحالات تكون فوائد التعامل بسعر الصرف الرسمى “المغالى فى قيمته” مقتصرة على عدد صغير نسبيًا ممن يتمتعون بامتيازات الوصول للعملات، لذلك فإن الانتقال إلى سعر صرف موحد يجب أن يوزع هذه الفوائد على نطاق أوسع بكثير، وبالتالى الحد من عدم المساواة إلى حد ما.
كيف يظهر سعر السوق الموازى؟
قال البحث إن العديد من البنوك المركزية تطبق سياسة سعر الصرف المُدارة، وفى معظم الحالات يتم ربط العملة مقابل عملة واحدة (عادةً الدولار الأمريكى أو اليورو)، أو مقابل سلة من العملات، وعادة ما يكون نطاق تداوله ضيقًا فى حدود 30 نقطة أساس للأعلى أو الأسفل، أو عبر الحفاظ على استقرار سعرالصرف الحقيقى الفعال.
لكنه أشار إلى أن الحفاظ على سوق سعر صرف واحد – بحيث يكون سعر الصرف الرسمى مناسبًا للاقتصاد الحقيقى، ويمكن إجراء معاملات الحساب الجارى المشروعة به، يعنى أن البنك المركزى يحتاج إلى ضمان أن الطلب والعرض على العملات الأجنبية مقابل العملة المحلية متوازن مع مرور الوقت.
وذكر أنه إذا كان لدى البنك المركزة احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية، وكانت تدفقات العملات الأجنبية الوافدة متساوية على الأقل مع التدفقات الخارجة، فقد تكون إدارة سياسة سعر الصرف هذه بسيطة نسبيًا، رغم أنها ستكون لها عواقب على إجراءات السياسة النقدية الأخرى، وأيضًا عواقب اقتصادية، وبذلك يكون البنك المركزى هو صانع السعر.
وقال إنه فى حالات أخرى، يكون السعر الرسمى للبنك المركزى مرن ويعكس تماشى العرض والطلب، لكنه يتدخل عبر احتياطيات العملات الأجنبية الرسمية، إذا كان سوق العملات الأجنبية ضعيفًا، ويتبع عدد من البنوك المركزية سياسة التدخل فى العملات الأجنبية للحد من التقلب المفرط فى الأسعار على المدى القصير، ولكن الأزمة أنه من وقت لآخر قد يجد البنك المركزى أنه لم يعد قادرًا على الحفاظ على سعر صرف مُدار للمعاملات الحالية، لأنه لم يعد قادرًا على ضمان أن المعروض من العملات الأجنبية كافٍ لتلبية الطلب بهذا السعر.
أوضح أن ذلك يحدث عندما تتردد السلطات فى السماح بتعديل سعر الصرف بالكامل ومع الحوافز المالية المفرطة والتى ربما تكون مدعومة بطباعة النقود، بما يؤدى إلى ارتفاع التضخم وضعف ميزان المدفوعات، أو أيضًا الصدمات التى يتعرض لها الاقتصاد، على سبيل المثال عندما يعانى بلد مُصدِّر للسلع الأساسية من انخفاض كبير ومستمر فى السعر العالمى لتلك السلعة.
وقال إنه فى عدد من البلدان، أدت أزمة كوفيد-19 إلى ضعف ميزان المدفوعات، فى ظل انخفاض التحويلات، أو تراجع حاد فى إيرادات السياحة، بالإضافة إلى صدمات أسعار السلع الأساسية.
لكن فى بعض الأحيان تحافظ البنوك المركزية على سعر صرف رسمى مُبالغ فيه، لا يلبى العرض الطلب وبدلاً من ذلك تحاول محاصرة الطلب عبر إجراءات تقييدية، عبر إعطاء الأولوية لمعاملات معينة؛ أو تقنين استخدام العملات الأجنبية؛ أو السماح بتراكم قوائم الانتظار؛ أو وضع سقوف لبعض المدفوعات الجارية أو حتى حظرها.
وأشار إلى أنه فى بعض الحالات، يحدد البنك المركزى سعرين “رسميين” أو أكثر، أو استخدام مجموعة من أسعار الصرف التفضيلية لقطاعات أو عناصر مختلفة، مثل سعر لواردات الوقود، وسعر ثان للمواد الغذائية الأساسية وما إلى ذلك، ومن المرجح أن يؤدى تعدد أسعار الصرف الرسمية إلى ممارسة تعدد العملات التى تحظرها المادة الثامنة من اتفاقية صندوق النقد الدولى.
اقرأ أيضا: صندوق النقد يتوقع جذب مصر 17.1 مليار دولار استثمار أجنبي في 2024- 2025
لكنه ذكر أن نهج استخدام سعر رسمى واحد أو أكثر مدعومًا بالاعتقاد بأن العملة القوية ستعنى نموًا أعلى وتضخمًا أقل، مع تجاهل المشكلات الأساسية – مثل التحفيز المالى المفرط أو تسييل عجز الموازنة- التى تسبب ضعف سعر الصرف والتضخم.
أضاف أن ذلك النهج قد يتم الترويج له أيضًا من قبل أولئك الذين يمكنهم الاستفادة من الوصول إلى العملات الأجنبية بسعر الصرف الرسمى”.
أوضح أنه فى بداية الأمر، يأمل البعض أن يتم عكس الصدمة الخارجية التى تسبب ضعف سعر الصرف بسرعة، وبالتالى تجنب الحاجة إلى تغييرات فى السياسة، لكنهم يفشلون فى التكيف عندما يطول الوضع.
أضاف: “فى مثل هذه الحالات، سيتطور السوق الموازى، وسيذهب التعامل إليه سواء للحصول على سعر أفضل عند بيع العملات الأجنبية، أو لأنهم لا يستطيعون الحصول على العملات الأجنبية بالسعر الرسمى”.
وقال إنه كلما اتسع الفارق بين السعرين الرسمى والموازى، كلما زاد الحافز لتوجيه العملات الأجنبية إلى السوق الموازية، وقد يتطرف الوضع ليصبح السوق “الموازى” هو المصدر الوحيد الموثوق به للعملات الأجنبية بالنسبة لغالبية المشاركين فى الاقتصاد.
أضاف أن البنك المركزى فى تلك الحالة يتمسك بدوره فى صناعة السعر لكن بدون الأدوات التى تمكنه من فرض السعر الذى يختاره، فتصبح السوق الموازية حلًا للمشاركين فى الاقتصاد من أزمة خلقها البنك المركزى.
وقال إن الأرجح فى تلك الحالة أن تعكس مستويات الأسعار فى الاقتصاد سعر السوق الموازى، إما لأن هذا هو المعدل الذى يتعين على معظم الأشخاص والشركات استخدامه، أو لأن أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى السعر الرسمى يمكنهم الاستفادة من جنى أرباح زائدة، أو توقع إمكانية حدوث انخفاض كبير فى القيمة فى المستقبل القريب وتحديد الأسعار وفقًا لذلك.
وقال إن دراسات الحالة فى جنوب السودان والسودان تشير إلى أن مؤشر أسعار المستهلك وحركة سعر الصرف الموازية بينهم علاقة طردية، إذ يغذى كل منهما الآخر.
أضاف أن سعر السوق الموازى قد لا يعكس فقط سعر التوازن بين العرض والطلب، لأنه قد يتم استخدام السوق الموازية ليس فقط لبعض معاملات الحساب الجارى، ولكن أيضًا للمعاملات غير القانونية، مثل التهرب من ضوابط رأس المال، أو الأنشطة الإجرامية.