خُصصت نسبة ضئيلة بلغت 2.4% فقط من حقوق السحب الخاصة عام 2021 للبلدان منخفضة الدخل الأشد احتياجاً إلى شبكة أمان مالى
منذ أكثر من ثمانية عقود، يمثل صندوق النقد الدولى ركيزة للاستقرار الاقتصادى الكلى والمالى العالمى.
وتعود نشأة الصندوق إلى مؤتمر بريتون وودز الذى حضره 44 وفداً، وهو يضم الآن 190 بلداً عضواً، منها 54 بلداً أفريقياً تشكّل معاً أكبر مجموعة إقليمية ممثَّلة فيه.
ويعكس هذا النمو تطوراً كبيراً مقارنةً بالإطار الأصلى الذى صُمم لدعم معيار الذهب المرتبط بأسعار الصرف الثابتة.
وقد أدى انهيار ذلك النظام منذ خمسين عاماً إلى تحويل دور الصندوق من ضامن لأسعار الصرف الثابتة إلى داعم لأسعار الصرف المرنة.
واستجابة لهذه التحولات، تطور صندوق النقد الدولى ليصبح مؤسسة مموّلة للتنمية؛ حيث تبلغ محفظته الحالية 112 مليار دولار موزعة على 90 بلداً، أى ما يزيد قليلاً على 1.2 مليار دولار لكل مقترض. وباستثناء الأرجنتين (التى اقترضت 32 مليار دولار)، ينخفض هذا الرقم إلى 900 مليون دولار لكل مقترض، ثم إلى أقل بقليل من 700 مليون دولار عند استبعاد أكبر ثلاثة مقترضين (الأرجنتين ومصر وأوكرانيا) يمثلون 46% من محفظة التمويل.
ولو أن مؤتمراً شبيهاً بمؤتمر بريتون وودز انعقد اليوم، لكان من المرجح أن يركز على التحديات المتشابكة للتنمية وتغير المناخ.
وقد أكدت المؤتمرات العالمية الأخيرة، ومن بينها قمة الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة ومؤتمر الأمم المتحدة المعنى بتغير المناخ COP28، على ما نعانيه من أوجه قصور فى معالجة هذه التحديات، وهو ما يرجع فى الأساس إلى نقص التمويل والخلل الوظيفى الذى يشوب النظام المالى.
القاطرة الرئيسية
وسيكون الجنوب العالمى القاطرة الرئيسية للنمو الاقتصادى العالمى فى المستقبل، إذ يُتوقع أن تضاعِف أفريقيا جنوب الصحراء من حصتها فى القوى العاملة العالمية من نحو 13% حالياً إلى 25% بحلول عام 2050.
ويتوقف التعامل مع هذا التطور المحتمل على إصلاح النظام المالى متعدد الأطراف؛ كى يستجيب بصورة أفضل لمعطيات الواقع الحالى، مثل قابلية التأثر بتغير المناخ والهشاشة الاقتصادية التى تفاقمها الصدمات العالمية.
وفى شرق أفريقيا والقرن الأفريقى، نبدأ الآن مسيرة التعافى من أربعة مواسم جفاف هى الأسوأ فى المنطقة منذ نصف قرن وتقدَّر خسائرها بنحو 9.5 مليون رأس من الماشية، منها 2.4 مليون رأس فى كينيا وحدها.
ونشهد حالياً فيضانات مدمرة هى الأسوأ منذ ظاهرة النينيو عام 1997.
وقد أودى الطوفان بالفعل بحياة أكثر من 250 شخصاً فى كينيا، وتنزانيا، وبوروندى، وشرد آلاف الأشخاص، وألحق أضراراً جسيمة بالممتلكات والمحاصيل والبنية التحتية.
وخلال مناقشاتى الأخيرة مع المسئولين الدوليين، لمست إجماعاً على ضرورة إصلاح أربعة مجالات رئيسية من مجالات عمل صندوق النقد الدولى، وهى أدوات الإقراض، وإصدار حقوق السحب الخاصة، ومعالجة المديونية الحرجة، وإصلاحات الحوكمة.
أدوات الإقراض
هناك إجماع واسع النطاق على ضرورة فصل الإقراض عن أنظمة الحصص. ذلك أن «سياسة الاستفادة الاستثنائية من موارد الصندوق» المطبقة حالياً ليست سياسة مُقَيِّدة فحسب، بل إنها تفرض أيضاً رسوماً إضافية عقابية تعكس نظاماً عفا عليه الزمن.
وتتطلب التحديات الاقتصادية التى نواجهها اليوم، مثل الكوارث الناجمة عن المناخ والجوائح، إعادة معايرة الأدوات المالية من أجل معالجة هذه الأزمات بشكل أكثر مرونة.
وأنا أؤيد فكرة الفصل بين أدوات الإقراض حتى تخضع كل منها لمعايير الأهلية الخاصة بها، وتكون مصممة بما يتناسب مع التدخلات الحكومية الرامية إلى تلبية احتياجات محددة، على عكس الوضع الحالى الذى يربط جميع الأدوات ببرنامج الصندوق الاقتصادى الكلى المتعارف عليه.
ولننظر إلى «تسهيل الصلابة والاستدامة»، على سبيل المثال. إنه ابتكار مرحب به يعترف بأن قابلية التعرض لمخاطر تغير المناخ هو أحد محركات الهشاشة الاقتصادية.
غير أن الاستفادة من هذا التسهيل تستوجب أن يكون البلد العضو مرتبطاً ببرنامج قائم بالفعل مع الصندوق، ما يشكل تحدياً أمام البلدان المعرضة لمخاطر المناخ التى تتسم بالإدارة الاقتصادية السليمة وقد ترغب فى الاستفادة من التسهيل لبناء صلابتها.
حقوق السحب الخاصة
يظل إصدار حقوق السحب الخاصة أداة حيوية لإدارة الأزمات. غير أن الحاجة إلى الإصلاح برزت مؤخراً فى سياق عمليات تخصيص حقوق السحب الخاصة للبلدان الأعضاء؛ حيث خُصصت نسبة ضئيلة بلغت 2،4% من مخصصات عام 2021 للبلدان منخفضة الدخل الأشد احتياجاً إلى شبكة أمان مالى.
ولم يتجاوز نصيب القارة الأفريقية كلها 5.2%. وفى المقابل، حصلت الاقتصادات المتقدمة ـ التى لا تحتاج إلى دعم مالى ـ على 64%.
وقد تعهدت البلدان الأكثر ثراءً بإعادة توجيه 100 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة لدعم البلدان الضعيفة.
وفى حين أن هذه التعهدات دعمت موارد الصندوق وقدمت نواة التمويل الأولى لتسهيل الصلابة والاستدامة، فإن البطء فى وتيرة توزيع هذه الأموال يسلط الضوء على مواطن عدم الكفاءة فى الممارسات القائمة.
المديونية الحرجة
يواجه العالم النامى أزمة ديون تذكرنا بالظروف التى أدت إلى إطلاق صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للمبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون («هيبيك») منتصف تسعينات القرن الماضى. ويتأكد هذا التشخيص فى أحدث تقرير أصدره البنك عن حجم الدين الدولى، والذى أوضح فيه أن حالات التعثر فى سداد الدين السيادى فى عشرة بلدان خلال الأعوام الثلاثة الماضية تجاوزت المجموع الكلى للعقدين السابقين.
وعلاوة على ذلك، ارتفع عدد اقتصادات الأسواق الصاعدة التى تقع فروق العائد على سنداتها فى المساحة الحرجة (1000 نقطة أساس أو أكثر مقارنة بسندات الخزانة الأمريكية المماثلة) بمقدار عشرة أضعاف، أى من اقتصاديَن إلى 20 اقتصاداً منذ عام 2020.
ومع تفاقم تحديات خدمة الديون بسبب أسعار الفائدة المتصاعدة، تظهر الحاجة الملحة إلى برامج شاملة لإعادة تمويل الديون على غرار خطة «بريدى» لمواجهة أزمة ديون أمريكا اللاتينية فى الثمانينات، من أجل تخفيف الديون ودعم التنمية المستدامة.
إصلاحات الحوكمة
تأخرت الحوكمة الاقتصادية العالمية عن مواكبة الصعود الاقتصادى للجنوب العالمى والتحولات الجغرافية ـ السياسية الأخرى.
فحقوق التصويت الحالية فى المؤسسات المالية الدولية لا تعبر عن معطيات الواقع الاقتصادى والديومغرافى الحالى، وخاصة المساهمات الكبيرة التى يقدمها الجنوب العالمى الذى يسهم فعلياً بنصف إجمالى الناتج المحلى العالمى، ويمثل سكانه 80% من سكان العالم.
وتشير مبادئ حوكمة الشركات إلى الحاجة إلى تمثيل أكثر إنصافاً واستقلالية فى عمليات صنع القرار.
وسوف تعتمد أهمية دور صندوق النقد الدولى فى المستقبل على قدرته على التكيف مع هذه التحديات الناشئة والإصغاء إلى احتياجات أعضائه فى مختلف أنحاء العالم.
وينطوى الطريق القادم على إصلاحات كبيرة، ولكن من خلال الجهود التعاونية والمتضافرة يمكننا أن نضمن بقاء الصندوق حجر زاوية للاستقرار العالمى لأجيال قادمة.
