تعد سياسة المنافسة الصارمة في أوروبا نتاجًا لحادث تاريخي.
فبعد الحرب العالمية الثانية، سعت ألمانيا للحد من “الكارتلات” التي كانت تراها تهديدًا لديمقراطيتها واقتصادها الناشئ.
وفي المقابل، رأت فرنسا أن كبح جماح الشركات الكبرى هو وسيلة لتعزيز مصالحها الاقتصادية، وأسفرت المفاوضات المعقدة عن منح الكثير من الصلاحيات إلى المفوضية الأوروبية، وهي الصلاحيات التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، مما أثار استياء الكثيرين في وادي السيليكون.
وفي الأعوام الأخيرة، أطلقت بروكسل سلسلة من التحقيقات التنظيمية ضد عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، مثل “أبل” و”جوجل” و”ميتا بلاتفورمز”.
كيف يجب أن تستخدم المفوضية سلطتها؟
هذا السؤال يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، فمن جهة، تبدو أسواق أوروبا أقل تنافسية مما كانت عليه في السابق.
ففي مطلع الألفية الجديدة، كانت أكبر أربع شركات في متوسط الصناعات الأوروبية تسيطر على حصة سوقية تقل عن 26%، حسب ما نقلته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وبحلول عام 2019، ارتفعت تلك النسبة إلى 31%، مع وجود بعض الأسواق الوطنية الأصغر مثل فنلندا والمجر التي أصبحت أكثر تركيزًا.
علاوة على ذلك، لم تتغير تركيبة الشركات الرائدة في السوق بشكل كبير.، كما يبدو أن معدلات الربح تتزايد، خاصة في القطاعات الخدمية والصناعات الرقمية، إذ ارتفعت بنسبة حوالي 10% خلال العقدين الماضيين.
من جهة أخرى، يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق بشأن مكانته العالمية، وهو ما يعتقد بعض المسؤولين أنه يمكن تعزيزه بوجود شركات عملاقة.
ينمو الاقتصاد الأوروبي ببطء، وتواجه صناعته منافسة صينية، فيما تحدث الابتكارات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي في أماكن أخرى.
ومؤخرًا، نشر ماريو دراجي، المحافظ السابق للبنك المركزي الأوروبي، تقريرًا يضم أكثر من 400 صفحة يقدم فيه توصيات لإجراء تعديلات على سياسة المنافسة.
كما جرى تعيين تيريزا ريبيرا كمفوضة منافسة في 17 سبتمبر، وقد كلفتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، باستخدام التقرير لتشكيل “نهج جديد”.
القضية الأولى هي الابتكار
ما يسمى بعمليات الاستحواذ القاتلة، إذ تشتري الشركات الكبرى المسيطرة شركات أصغر وأكثر ابتكارًا، أصبحت موضوعًا ساخنًا في أوروبا، التي تزخر بالعديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وقد طُلب من ريبيرا إيلاء اهتمام خاص لهذه الاستحواذات التي تقوم بها شركات أجنبية، رغم أن قواعد المنافسة الأوروبية حتى الآن كانت محايدة فيما يتعلق بجنسية المالكين.
من ناحية أخرى، يقترح دراجي سياسة “دفاع الابتكار” الأوسع نطاقًا، والتي يمكن أن تستخدمها الشركات لتبرير الاندماجات، وستؤدي هذه التدابير إلى اتباع نهج أكثر تعقيدًا في سياسة المنافسة، وهو نهج يقلل من التركيز على رفاهية المستهلك.
القضية التالية هي كيفية دمج الأهداف الجيوسياسية في اللوائح التنظيمية
تريد المفوضية من الشركات الأوروبية تطوير سلاسل إمداد أكثر قوة ونماذج أعمال أقل اعتمادًا على حكومات أخرى.
إذا كان ذلك يعني الجهود المشتركة لشراء المعادن الهامة أو تطوير معايير تكنولوجية مشتركة، فليكن كذلك، وفقًا لدراجي.
التحدي هنا هو أن الإجراءات المشتركة لا تزيد بالضرورة من المرونة إذا كانت تعني أن العديد من الشركات تعتمد على نفس المورد الواحد.
ويريد دراجي أيضًا إنشاء هيئة جديدة لتقديم المشورة بشأن المجالات الحساسة للأمن، بجانب أن إدخال مثل هذه المخاوف في قرارات المنافسة قد يضفي طابعًا “أوروبيًا بحتًا” على السياسات.
ثم تأتي قضية الإنفاق الحكومي
يريد الاتحاد الأوروبي تعزيز سياسته الصناعية مع السعي لحماية الصناعات الأوروبية من التأثر بالسياسات الأجنبية.
وتطالب فون دير لاين بتطبيق الأحكام الجديدة لضمان عدم تأثير الإعانات الأجنبية على تكافؤ الفرص في أوروبا.
وعندما ترغب الدول الأوروبية في إنفاق الأموال لدعم الصناعات الخضراء وغيرها من الصناعات الاستراتيجية، قد تكون ريبيرا أسرع في اتخاذ القرارات وأكثر تساهلاً، بشرط أن يكون الإنفاق متسقًا مع الدول الأخرى، وهذا يستند إلى النهج الأكثر مرونة الذي ظهر خلال جائحة كوفيد وأزمة الطاقة في أوروبا.
وتتعلق التغييرات المحتملة النهائية بمجالات جديدة لسياسة المنافسة، إذ تشعر شركات التكنولوجيا الأمريكية بوطأة قانون الأسواق الرقمية، وهو محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي للتدخل عندما يعتقد أن السلوك المناهض للمنافسة قد يضر بالسوق في المستقبل.
كما يقترح دراجي أيضًا أدوات منافسة جديدة لمعالجة التواطؤ الضمني، وكذلك في الأسواق حيث يتردد المستهلكون في تغيير الموردين، كما هو الحال في توفير الطاقة.
يتفق معظم الاقتصاديين، بمن فيهم دراجي، على أن سياسة المنافسة الأوروبية، على الرغم من صرامتها أحيانًا، هي واحدة من قصص النجاح الأوروبية.
ومع ذلك، في الأعوام المقبلة، هناك خطر من أن تكون هذه السياسة مضطرة لخدمة العديد من الأهداف في آن واحد، وقد تكون الطموحات المتعلقة بالابتكار الرقمي، مثلاً، أفضل تحقيقًا من خلال تشجيع أسواق رأس المال الأوروبية أو سوق خدمات أقل تجزئة.
ولا يبدو أن سياسة المنافسة يجب أن تتعلق بسلاسل الإمداد.
ريبيرا أمامها مهمة ضخمة، وربما تكون هذه المهمة أكبر من طاقتها الاستيعابية.