شهدت لجنة تحديد أسعار الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع الماضي حالة لافتة من الانقسام، إذ سجلت معارضة واحدة فقط، وهو أمر لم يحدث منذ عام 2005، عندما اعترضت ميشيل بومان على قرار خفض الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، واعتبرت أن الخفض قد يكون مبالغاً فيه في ظل اقتصاد لم يتغلب بعد على مشكلة التضخم.
ومع ذلك، أيد الأعضاء الـ11 الآخرون التصويت لصالح الخفض، مما يعكس تقريبًا إجماعاً تاماً حول المكان المناسب لمعدل الفائدة الحالي.
ما لم يُلاحظ كثيرًا وربما الأكثر أهمية هو عدم وجود إجماع على المكان الذي ينبغي أن يصل إليه معدل الفائدة المرجعي في نهاية المطاف، حسب ما نقلته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
يقدم صُناع القرار في البنك المركزي الأمريكي توقعاتهم كل ثلاثة أشهر.
وفي آخر تحديث لهم، الذي نُشر في 18 سبتمبر، أظهرت التوقعات تفاوتاً كبيراً في الآراء حول معدلات الفائدة طويلة الأجل، إذ سجلت أكبر تباين منذ بدء نشر تلك التوقعات عام 2012.
ومن بين 19 مسئولاً قدموا توقعات (الأعضاء الـ12 المصوتين بالإضافة إلى سبعة رؤساء فروع إقليمية للبنك)، لم يتفق سوى ثلاثة منهم كحد أقصى على مستوى محدد للفائدة طويلة الأجل، وفي المجمل، تم تقديم 11 توقعًا مختلفاً، تراوحت بين 2.375% كأدنى مستوى و3.75% كأعلى مستوى.
هذا التفاوت الواسع يعكس بشكل واضح حالة من عدم اليقين الكبيرة، ويشير أيضًا إلى مشكلة جوهرية في السياسات النقدية: غموض مفهوم “سعر الفائدة الحقيقي المحايد”، الذي يُفترض أن يكون دليلاً لصناع القرار.
عادةً ما يُعرف هذا المعدل، المعروف اختصاراً بـ”r-star”، على أنه المعدل الذي يُستخدم عندما ينمو الاقتصاد وفقًا لإمكاناته، ويكون التضخم مستقرًا والعمالة في أقصى مستوياتها، وفي ظل هذا التوازن المثالي- الذي يمثل الجنة لصناع السياسات النقدية- لن تكون أسعار الفائدة توسعية ولا انكماشية.
ورغم أن صناع السياسات في الاحتياطي الفيدرالي، لا يدلون بأي توقعات تتعلق بمعدل الفائدة الحقيقي المحايد في توقعاتهم الفصلية، إلا أنه من السهل استنتاج وجهات نظرهم الضمنية من خلال طرح توقعاتهم للتضخم من توقعاتهم لمعدلات الفائدة طويلة الأجل.
وبما أن جميع الأعضاء يعتقدون أن التضخم يتجه نحو هدف البنك البالغ 2%، فإن الاختلافات بين توقعاتهم لمعدلات الفائدة طويلة الأجل تعكس اختلافاتهم حول سعر الفائدة الحقيقي المحايد، وبناءً على ذلك، يعتقدون أن المعدل الحقيقي المحايد يقع بين 0.375% و1.75%.
حتى وقت قريب، كانت معظم توقعات الاحتياطي الفيدرالي ترتكز حول معدل محايد يبلغ 0.5%، لكن الآن، يعتقد أكثر من ثلاثة أرباع الأعضاء أن المعدل أعلى من ذلك، وربما أعلى بكثير.
ليس هناك معدل محايد في الواقع المرئي، لذا لا يمكن إثباته بشكل قاطع سواء كان مرتفعًا أو منخفضًا.
غالبًا ما يستشهد جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بالاقتصادي جون هنري ويليامز، الذي استخدم علم اللاهوت في تفسير المعدل المحايد، حيث قال في عام 1931: “مثل الإيمان، يتم التعرف عليه من خلال أعماله”.
هذه مقولة ذكية لكنها أيضًا محبطة للغاية، فبما أن معرفة المعدل المحايد تأتي بعد فوات الأوان، فإن صناع القرار قادرون على رؤيته فقط بأثر رجعي.
ومع ذلك، فإن النقاشات حول السياسات النقدية تركز بشكل كبير على تحديد المستوى المحايد بدقة.
في مراجعة نُشرت في عام 2021، اكتشف كلاوديو بورو، من بنك التسويات الدولية، زيادة كبيرة في الإشارات إلى “سعر الفائدة الطبيعي” (الذي يُستخدم أحيانًا بالتبادل مع المعدل المحايد) في السنوات الأخيرة.
وحتى منتصف العقد الماضي، ظهر هذا المفهوم في نحو خمسة خطابات سنويًا من قبل صناع السياسات النقدية، وبحلول عام 2019، ظهر في أكثر من 50 خطابًا سنويًا.
بينما كان الاقتصاديون يعتمدون سابقًا على الكتل النقدية كدليل لسياسات البنوك المركزية، أصبحوا الآن يميلون أكثر إلى التفكير في “سعر الفائدة الحقيقي المحايد”
النقاش الحالي يضم معسكرين.
الأول يرى أن المعدلات المحايدة قد ارتفعت بعد جائحة كوفيد، إذ قد يؤدي النمو المرتفع في الإنتاجية، ربما نتيجة الذكاء الاصطناعي، إلى زيادة إمكانات النمو وبالتالي ارتفاع المعدل المحايد.
ومن جهة أخرى، العجز المالي المتزايد قد يضع ضغوطًا تصاعدية على المعدل المحايد.
والمعسكر الآخر يعتقد أن الاتجاهات الطويلة الأمد التي كانت تؤثر على المعدلات قبل الجائحة تعود إلى الظهور، مثل شيخوخة السكان الذين يميلون إلى الادخار أكثر والابتكار أقل، وهذا النقاش مهم، لكنه لا يقدم مقياسًا حاسمًا لتحديد ما إذا كان سعر الفائدة المحايد قد ارتفع.
حاول الاقتصاديون الوصول إلى مثل هذه المقاييس من خلال نماذج معقدة، كما هي عاداتهم، واحدة من أكثر النماذج تأثيرًا تُعرف باسم “إتش إل دبليو”- نسبة إلى الاقتصاديين الذين ابتكروها، والتي يتم تحديثها بانتظام من قبل الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.
ووفقًا لهذا النموذج، انخفض المعدل الحقيقي المحايد بشكل حاد في السنوات الأخيرة ويبلغ الآن 0.75%، وهو مستوى مشابه للحد الأدنى الذي شوهد بعد الأزمة المالية العالمية 2007-2009.
وسيكون هذا غير مريح لصناع السياسات في الاحتياطي الفيدرالي الذين يفترضون أن المعدل المحايد أعلى بكثير في عالم ما بعد كوفيد.
ومع ذلك، من غير الحكمة تقديس مثل هذا النموذج أو أي نموذج آخر، حيث يجادل دانييل بونسيك، من جامعة ستوكهولم، في ورقة بحثية حديثة بأن نموذج “إتش إل دبليو” يعاني من عيوب.
وإحدى المشكلات هي أنه يدمج أسعار الفائدة السياسية كمتغير، مما يؤدي إلى حالة من التكرار، وهذا يثير سؤال مفاده: هل تقوم البنوك المركزية بضبط أسعار الفائدة لتتوافق مع سعر الفائدة الحقيقي المحايد، أم أن تقديرات هذا المعدل تتفاعل مع قرارات البنوك المركزية؟
وكما يشير بورو، فإن نطاق الخطأ القياسي حول نماذج سعر الفائدة الحقيقي المحايد بشكل عام ستضع المعدل المحايد في نطاق يبلغ نحو 2.5 نقطة مئوية، وهو ما يكاد يكون غير مفيد بالنسبة لصناع السياسة الذين يتعاملون مع زيادات بربع نقطة مئوية.
هناك أيضًا حقيقة مفادها أن البنوك المركزية لا تعمل في الظلام، فهي لديها الكثير من البيانات والنظريات التي تساعدها في تحديد ما إذا كانت أسعار الفائدة مرتفعة أو منخفضة، بدءًا من مقاييس الإنتاج والتضخم إلى تقديرات النمو المحتمل والتوظيف الكامل وتوقعات التضخم، لكن الاعتقاد بأن هناك معدلاً محايدًا يمكن تمييزه، موجودًا في مكان ما في عالم السياسات النقدية، هو تبسيط مفرط.
السعي وراء متغير وهمي ومن المؤكد تقريبًا أنه غير صحيح قد يكون ضارًا بقدر ما هو مفيد، ومن هذه الزاوية، فإن انهيار الإجماع في توقعات سعر الفائدة الحقيقي المحايد الخاصة بالاحتياطي الفيدرالي هو أمر مرحب به، فهو نوع من الصدق الفكري.