في اقتصاديات الدول الساعية لتحقيق نمو مستدام، لم تعد الضرائب مجرد أداة مالية لتحصيل الإيرادات، بل أصبحت انعكاسًا جوهريًا لقدرة الدولة المؤسسية على “تعبئة الموارد” بشكل منصف وكفء ومستدام، وهو مفهوم يشير إلى إحداث أثر إيجابي لنمو الاقتصاد على الإيرادات الضريبية اللازمة لتمويل الإنفاق العام.
وفي ضوء مشروع موازنة الدولة المصرية 2025/2026، تتضح فجوة هيكلية مقلقة، إذ إن الإيرادات الضريبية المقدّرة تبلغ 2.528 تريليون جنيه، بما يعادل 13% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة متدنية مقارنة بمتوسط الدول الافريقية (حوالي 16% وأقل بكثير من متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذي يصل إلى 34%.
التحسين الإجرائي وحده لا يكفي
وهذا هو جوهر الإشكالية التي تكشف عن قصور مركب في السياسات والمؤسسات، لا يُعالجه التحسين الإجرائي وحده، بل يحتاج إلى تغيير فلسفة المنظومة الضريبية التي باتت معيارًا يُقاس من خلاله مدى تطور الإدارة المالية العامة، ومدى التوازن بين أهداف زيادة الحصيلة وضمان العدالة الاجتماعية وكذا اتساق الإيرادات مع النمو.
المشكلة أن الدولة المصرية لا تعاني انخفاض معدلات ضريبية اسمية كما تشير الأرقام فقط، بل ضيقا في القاعدة الضريبية وضعفا في الكفاءة التحصيلية، خاصة أنه بالرغم من توسيع نظم التسجيل الإلكتروني، فإن قطاعات كبيرة من الاقتصاد لا تزال خارج المظلة الرسمية.
كذلك تظهر البيانات أن النمو في الحصيلة الضريبية يرتبط أكثر بتضخم الأسعار منه بنمو الأنشطة أو توسع الاستثمارات، ففي تقديرات عام 2025/2026، تمثل الضرائب على السلع والخدمات (القيمة المضافة بالأساس) ما يزيد على 1.1 تريليون جنيه، أي قرابة 44% من إجمالي الحصيلة، ما يعكس اعتمادًا مفرطًا على الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل المستهلك النهائي، دون تحفيز للإنتاج أو تحقيق عدالة في التوزيع.
ورغم أن التحسينات التي قادتها وزارة المالية في مجال الميكنة، وتوسيع قاعدة الممولين، وتفعيل الفاتورة الإلكترونية، تُعدّ تطورات إيجابية ومطلوبة، إلا أنها تظل في نطاق “الإصلاح الإجرائي”، الذي يُحسّن أدوات التحصيل، لا بنيته وفلسفته كما هو مطلوب.
ويُحسب لأحمد كوجك، وزير المالية الحالي، أنه تبنّى منذ توليه المنصب توجهًا أكثر وعيًا بطبيعة التحدي الهيكلي في تعبئة الموارد، مع التركيز على أدوات تحفيز الامتثال الطوعي وتسوية النزاعات المتراكمة.
ويأتي في طليعة هذه الجهود -في تقديري- ملف التصالح الضريبي، الذي تمت بلورته تشريعيًا من خلال القانونين 5 و6 لسنة 2025، واللذين يمثلان محاولة جادة لإغلاق ملفات مفتوحة، ودمج شرائح واسعة من الممولين في مسار قانوني مستقر ومنخفض التكلفة الإدارية..
ورغم الحاجة المستمرة إلى تطوير البنية التطبيقية لهذين القانونين، سواء من حيث المعايير أو آليات التنفيذ، فإن الرسالة الأساسية التي يقدمانها واضحة، وهي أن الدولة تسعى للتحول من جباية استثنائية إلى تعاقد ضريبي عقلاني ومستقر.
آليات محددة لتصحيح الخلل
وبلا شك، فلا يمكن للدولة المصرية الوصول إلى مستويات تعبئة موارد مستدامة دون إعادة هيكلة النظام الضريبي نفسه، وذلك من خلال تصحيح الخلل بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وتوسيع الضريبة على الثروة والمكاسب الرأسمالية، وإنهاء الامتيازات الضريبية الانتقائية، ومراجعة المنظومة الحافزية للإدارات الضريبية.
تجارب دولية ناجحة
وهناك العديد من التجارب الدولية التي نجحت في كسر جمود المنظومة الضريبية، ففي المكسيك، أدى إصلاح ضريبي موجه لدمج القطاع غير الرسمي مع إصلاحات في ضريبة الدخل إلى زيادة الحصيلة بنحو 3% من الناتج خلال خمس سنوات.
كما أن المغرب نجح في استحداث نظام “المساهمة المهنية الموحدة”، الذي وازن بين البساطة والعدالة، ما مكّن من إدماج وحدات صغيرة كانت خارج المنظومة، وكذلك في كولومبيا، إذ جرى ربط الإصلاح الضريبي بتحقيق أثر اجتماعي مباشر، ما عزز القبول العام ورفع الامتثال الطوعي.
ففي كل النماذج الناجحة، لعبت العدالة الضريبية دورًا مركزيًا في تعزيز ما يُعرف بالشرعية الضريبة في نظر المواطن، ومع أن التحدي في مصر تقني ومالي في جوهره، إلا أن القبول المجتمعي يمثل عنصرًا جوهريًا لإنجاح الإصلاح.
فالضريبة التي يُنظر إليها كمساهمة عادلة مقابل خدمات عامة ملموسة تُواجَه بالامتثال، بينما تُواجه الجباية دون مقابل بالتحايل أو الغضب أو الانسحاب من الاقتصاد الرسمي، لذلك، فإن تعزيز الثقة بين الدولة والممولين، وضبط الفجوات الأفقية بين ممولين متماثلين والرأسية بين الشرائح الاقتصادية المختلفة شرط لتعظيم كفاءة التحصيل.
وعليه، فالحكومة الآن في حاجة إلى أن تُركّز على ضرورة رفع نسبة الضريبة للناتج تدريجيًا إلى نحو 18% خلال خمس سنوات، وفق استراتيجية تعتمد على توسعة القاعدة لا رفع المعدلات، وأيضا من خلال إعادة هيكلة الإعفاءات التي تفقد الدولة ما لا يقل عن 3% من الناتج.
كما أن فصل سلطات الفحص والتحصيل عن التقدير الشخصي، وتكريس المعايير الموضوعية وربط الأداء بالمهنية لا بالحصيلة، من شأنه أن يساعد في الوصول إلى هذه النسب المنشودة، بالطبع مع تشجيع الامتثال الطوعي وذلك بتوجيه الإيرادات الجديدة لبرامج نوعية في الصحة والتعليم والبنية التحتية، لإعادة تعريف العلاقة الضريبية كمساهمة لا كمصادرة.
وبما أنه لا نمو بلا موارد، ولا موارد بلا إصلاح ضريبي عادل، فلا يمكن تصور مشروع وطني للتنمية دون قدرة الدولة على تعبئة مواردها الذاتية، وهو ما ينقل الإصلاح الضريبي من مجرد أولوية مالية، إلى ضرورة وجودية، وإلا سوف تظل الدولة رهينة الاقتراض، والتضخم، وضعف الاستقلال المالي.